في اجتماع عقده الأربعاء الماضي مع قادة حزب «العدالة والتنمية»، لخّص الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الأسباب التي أدت إلى هزيمة الحزب في الانتخابات البلدية الأسبوع الماضي، بقوله إن ما حصل «لم يكن خسارة للأصوات فقط، بل أيضاً خسارة على صعيد الدماء والروح»، معتبراً أن «أكبر عدو لحزب سياسي يولد من حضن الأمة، هو بناء جدران بينه وبين المواطنين». ومن بين تلك الأسباب حدّد الرئيس اثنين على وجه الخصوص، الأول مشكلات الاقتصاد والتضخم، والثاني الحرب على غزة. يحظى التشخيص آنف الذكر، بواقعية وازنة، على اعتبار أن أول السببين لـ «هزيمة 31 آذار» كان من نوع «القديم المستمر»، لكن المُتّخِذ طبعات حادة في المرحلة التي أعقبت الفوز في الانتخابات العام الماضي، فيما كان ثانيهما من النوع الذي تطغى عليه صفة «المستجد»، الذي رمى بحمولات ثقيلة على نسيج أقام روابطه مع المحيط على قاعدة تغليب حقائق «الأيديولوجيا» على ما عداها من حقائق تفرضها وقائع الجغرافيا السياسية والاقتصاد. والشاهد في السبب الثاني أن ثمة تأثيراً بدا فاعلاً بدرجة كبيرة للحملات التي أدارها زعيم حزب «الرفاه الجديد»، فاتح أربكان، وسعى عبرها إلى ترسيخ صورة لدى الناخب مفادها أن من يصوت لحزب «العدالة والتنمية» كمن يصوت لدعم إسرائيل بالسلاح، قبل أي شيء آخر، في إشارة إلى العلاقة التجارية مع كيان الاحتلال، والتي لم تتأثر بـ«طوفان الأقصى». والخطاب هنا يحظى بخصوصية شديدة الحساسية انطلاقاً من كونه خارجاً من نسيج شكّل أساساً الرحم الذي تحدّر منه «العدالة والتنمية» قبل 23 عاماً.من الصعب القول إن إردوغان لم يكن مدركاً جيداً لتأثير العاملين المتقدّمين، وما يمكن أن يؤديا إليه، وخصوصاً أن سجلّه السياسي يشير بوضوح إلى انتمائه إلى فئة الساسة الذين يستطيعون تحديد اتجاه الرياح المقبلة قبل هبوبها، وهو ما تؤكّده التموضعات اللحظية التي راح يتخذها بين حين و آخر، متنقّلاً، بنجاح، بين «حضن» وآخر على مدى ما يزيد عن العقدين. لكن الراجح هو أن عطباً أصاب الآلية التي تُعطي القياس المحتمل لشدّة الرياح المقبلة لديه، وهو ما ظهر عبر «الصدمة» المتولّدة عنده لدى مراقبته الخريطة السياسية التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، والتي قد تمهّد الطريق لانقلاب المشهد السياسي في غضون عامين أو ثلاثة، هذا إن لم تتعمّق الجراح أكثر، فتفرض واقعاً يستدعي الدعوة إلى انتخابات جديدة قبل موعدها المقرر عام 2028 .
سرعة تقدّم فاتح أربكان تخيف إردوغان


غالباً ما تكون الانزياحات من النوع الذي حصل في تركيا، نتيجة للتباعد بين الخطاب والممارسة، بدرجة فاقعة. صحيح أن ثمة تباعداً قديماً بين هذين المعطيين، ما يمكن تلمّسه في محطات عدة في الأعوام المنصرمة من دون أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها في انتخابات العام الماضي، لكن الصحيح أيضاً هو أن ما قذف به خريف العام الفائت كان ذا بعد تراكمي، من النوع الذي لا يحتاج وقتاً طويلاً لكي تحدث ترجمات نوعية له. والشاهد هو أن مشروعية حكم «العدالة والتنمية» قامت على ركيزتين أساسيتين، أولاهما محاولة استنهاض الإرث الإسلامي، الذي يغوص عميقاً في الذات الجمعية التركية بدرجة لم تستطع «الأتاتوركية» اقتلاعها، وثانيهما هو «البحبوحة» الاقتصادية التي عاشتها البلاد بالتزامن مع وصول الحزب إلى سدة السلطة عام 2002، رغم أنها جاءت نتاجاً لبنيان جرى الإعداد له في مرحلة بدأت مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
كان استمرار «المشروعية» هنا، رهناً بقيام توازن بين حدّي المعادلة التي يشكل «الإرث - الأيديولوجيا» و«الاقتصاد» طرفيها الثابتين، حتى إذا اختل ذلك التوازن نتيجة فعل نقيض للشعار المُدّعى، حصلت تفسّخات في نسيج «الحاضنة». وهذا الأمر يمكن تلمّسه بوضوح عبر صعود حزب «الرفاه الجديد»، الذي أحياه نجل زعيمه السابق عام 2018، وبات يشكّل القوة السياسية الثالثة في البلاد بواقع تمثيل يبلغ 6.1 %. وذلك الصعود يكتسب أهمية استثنائية لتزامنه مع غياب شبه تام لحزبي «المستقبل» و«التقدم والديموقراطية» الخارجين من عباءة «العدالة والتنمية»، وهما تأسّسا أصلاً نتيجة لافتراقات كانت تخصّ السياسة الخارجية بالنسبة إلى الأول، والاقتصاد بالنسبة إلى الأخير.
لكن «العقاب» لم يصبّ في مصلحة الحزبين الأخيرين، وإنما في مصلحة «الرفاه الجديد»، ولا سيما أن أربكان رفض الدخول، هذه المرة، في «تحالف الجمهور»، الذي ضمّه إلى «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» إبان انتخابات أيار و حزيران من العام الماضي، وكأن هذا الرفض يريد تأكيد ضرورة العودة إلى المرتكزات الثلاثة التي قال بها المؤسس والأب نجم الدين أربكان، وتتمثّل في وجوب العمل على إحياء الحضارة الإسلامية، والسعي إلى إيجاد نوع من الوحدة بين دولها، ثم تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والفكري لتركيا، وهذا يفترض إبقاءها بعيداً من مدارات الهيمنة الأميركية. باختصار، جاء «العقاب» لمصلحة «الجذور» وليس لمصلحة «الفروع»، وهو ما يحظى بأهمية اعتبارية شديدة. ومن الراجح الآن أن إردوغان بات يرى أن «الخطر» المقبل يتمثّل في فاتح أربكان، وليس في أكرم إمام أوغلو الذي صعدت شعبيته أخيراً بدرجة كبيرة.
قد يكون الثقل الذي أشار إليه الميزان عند وضع «الرفاه» في الكفة ليس خطيراً، لكن الخطر هو أن ذلك الثقل قد ازداد بنسبة 100% عنه عندما وُضع في الكفة قبل نحو عشرة أشهر. وسرعة كهذه في الصعود خبرها إردوغان جيداً، حين تنامى ثقله سريعاً ليحظى بلقب القوة السياسية الأولى في البلاد بعد عام على تأسيسه لحزبه.