تفيد الدروس المستخلصة من تجارب حركات التحرّر الوطني ضد الاستعمار، أن بين الشروط الضرورية لانتصار هذه الأخيرة، إضافة إلى صمود في الميدان واستنزاف قوة العدو إلى أعلى درجة ممكنة، استغلال التناقضات السياسية داخل المركز الاستعماري لتصعيد الضغوط على صناع القرار وحملهم على الإذعان لمطالب الحركات المذكورة. هذا ما أظهرته التجارب التحررية في الجزائر وفيتنام والعديد من بلدان الجنوب العالمي الأخرى. الثبات في الحروب الطويلة الأمد ضد المستعمرين، على الرغم ممّا ترتّب عليها من تضحيات جسام وأهوال بالنسبة إلى الشعوب المستعمرة، وإثبات عجز المستعمرين عن حسم الصراع لصالحهم في الميدان، حتى في ظل لجوئهم في الكثير من الحالات إلى التوحش المنفلت من عقاله، والأثمان البشرية والسياسية والاقتصادية التي تكبّدوها، والانقسامات الداخلية لديهم الناجمة عنها، هي العوامل التي فرضت عليهم التراجع. لقد أكدت ملحمة «طوفان الأقصى» مرة أخرى الطبيعة العضوية للعلاقة بين الغرب الإمبريالي، أو «الغرب الجماعي» كما يحب قادته تسميته، والكيان الصهيوني. من اللحظة الأولى لاندلاع المواجهة، هبّ قادة المركز الإمبريالي كرجل واحد لنجدة الكيان ولتأمين جميع أشكال الدعم العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي والإعلامي له. هم أضحوا عملياً شركاء في حرب الإبادة الصهيونية بكل ما للكلمة من معنى. ولكن، وبعد حوالي الـ6 أشهر على انطلاقها، بدأت شروخ واضحة تظهر في جبهة الأعداء. الامتناع الأميركي عن استخدام "الفيتو" ضد قرار مجلس الأمن الأخير، الذي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، لا يعني بطبيعة الحال أن «صحوة ضمير» انتابت إدارة بايدن، أو غيرها من حكومات «الغرب الجماعي»، بفعل التوحش الصهيوني غير المسبوق ضد الشعب الفلسطيني. فقد سارع جون كيربي، الناطق باسم مجلس الأمن القومي، مثلاً، إلى التذكير بالطابع «غير الملزم للقرار»، وبأنه لن يؤثر على قدرة إسرائيل على محاربة حركة «حماس»، ولا على تدفق السلاح الأميركي نحوها. لكن هذا التذكير لا يلغي حقيقة أن ذلك الامتناع الأميركي، وما سبقه من مواقف لمسؤولين أميركيين وغربيين، أتت في مجملها بموازاة تحولات كبرى في توجهات قطاعات وازنة من الرأي العام والنخب السياسية والاقتصادية والثقافية، وإنْ لدوافع مختلفة، هي تطورات تشكل في الواقع سحباً للغطاء السياسي الذي مُنح للكيان عند اندلاع المعركة. يشي هذا التغير في مواقف قيادات «الغرب الجماعي» بقناعتها باستحالة انتصار إسرائيل عسكرياً على المقاومة الفلسطينية في المدى المنظور، حتى في حال مهاجمتها لمدينة رفح. المتابعة اليومية لمجريات العمليات والاشتباكات في الميدان في أنحاء القطاع، بدءاً من شماله الذي زعم العدو أنه نجح في «تطهيره» منذ أشهر، دفعت هذه القيادات إلى مراجعة حساباتها. المشهد من منظورها بات يبدو كالتالي: معركة مفتوحة في غزة، وأخرى متصاعدة وإن بالتدريج بين المقاومة في لبنان والجيش الصهيوني، وعودة للعمليات في سوريا ضد قوات الاحتلال الأميركي، ومواجهة تتجه إلى الاحتدام في باب المندب والبحر الأحمر والمحيط الهندي بين اليمن والبحريتين الأميركية والبريطانية. بكلام آخر، أصبح الإقليم برمّته ساحة مواجهة مرشّحة للاستعار، لها مفاعيل شديدة السلبية بالنسبة إلى «الغرب الجماعي».
استمرار المواجهة المشار إليها بالنسبة إلبى إدارة بايدن، ستكون له تداعيات كارثية على المستوى الداخلي الأميركي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وهو الاستحقاق الأهم في نظرها، قبل أي اعتبارات سياسية أو استراتيجية أخرى. اعتبارها شريكة في حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة سيحرمها أصوات كتلة الناخبين المؤلفة من «التيار التقدمي» في «الحزب الديموقراطي» ومن «الأقليات» من ذوي الأصول العربية والإسلامية أو من الأفارقة - الأميركيين. ولا شكّ في أن هاجس كسب هذه الأصوات هو بين دوافع مساعيها الراهنة للتمايز عن الموقف الإسرائيلي. أما على المستوى الاستراتيجي، فإن تورطها المتزايد في الصراع في منطقتنا، إضافة إلى مخططها الذي فشل في أوكرانيا لإلحاق الهزيمة بروسيا، يضعفان صدقية مزاعمها عن أولوية تركيزها على التصدي لتعاظم دور الصين ونفوذها على الصعيد الدولي. أما بالنسبة إلى الأوروبيين، الذين أضحوا يرون في فشل حربهم المشتركة مع الأميركيين ضد روسيا في أوكرانيا تهديداً استراتيجياً، ما يفسر تصريحات إيمانويل ماكرون المثيرة للسخرية عن إرسال قوات فرنسية إلى هذا البلد، فإن آخر ما يحتاجون إليه هو مزيد من التصعيد في منطقتنا.
راهنَ قادة الغرب الجماعي لأشهر طويلة على قدرة إسرائيل على القضاء على المقاومة الفلسطينية، وإن باعتماد سياسة الإبادة، وعندما اتضح لهم عجزها عن ذلك، وفي سياقات دولية وإقليمية وداخلية غير مؤاتية لهم ولمخططاتهم، شرعوا في البحث عن بدائل، وهو ما يتناقض مع أجندة حكومة نتنياهو الفاشية. ثبات المقاومة في الميدان، في غزة وفلسطين، ولبنان وسوريا والعراق واليمن، كفيل بتعميق هذا الشرخ، وبإنتاج الظروف الدولية والإقليمية المؤاتية لإلحاق هزيمة جديدة بالكيان.