بعد ساعات قليلة من مواجهة ديبلوماسية جنوب أفريقية - إسرائيلية في أروقة مؤتمر «الاتحاد البرلماني الدولي» في جنيف (24 الجاري)، وجّهت افتتاحية «وول ستريت جورنال» (25 الجاري) سهام نقدها إلى بريتوريا، التي ضمّتها إلى «محور مناهضي الولايات المتحدة» جرّاء موقفها الحاسم من الإبادة الجارية في قطاع غزة. وهو موقف انسحب أميركيّاً على مجمل العلاقات الثنائية مع جنوب أفريقيا، وتجسّد أخيراً في تمرير مشروع «قانون مراجعة العلاقات الثنائية» في «لجنة الشؤون الخارجية» في مجلس النواب (21 الجاري)، على خلفية ما اعتُبر تاريخاً من اصطفاف هذا البلد مع «فاعلين خبثاء»، في مقدّمتهم حركة «حماس» والصين وروسيا. وكشفت المواقف الأميركية تلك عن تماهٍ تام مع نظيرتها الصهيونية، وجنوح واشنطن نحو ممارسة كل الضغوط الممكنة لإثناء بريتوريا عن انتهاج سياسة خارجية «مستقلّة».
مواجهة جنيف: سياقات ودلالات
وقعت مواجهة محتدمة بين ممثّلة جنوب أفريقيا في المؤتمر، ونظيرها الإسرائيلي داني دانون، ممثّل «الكنيست» وأحد أشدّ دعاة التنفيذ الكامل لخطّة اجتياح مدينة رفح، وذلك في أعقاب اتهام بريتوريا، تل أبيب، بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، وخلقْها عمداً أزمة إنسانية في غزة، ثم دعوتها إلى وقف فوري لإطلاق النار تفادياً لمضاعفة الخسائر البشرية إلى مستويات كارثية. وانبرى دانون، من جهته، للدفاع عن عدوان «دولته» التي دخلت «الحرب مع حماس مرغمة» كما زعم، معتبراً أن جنوب أفريقيا «تدعم الإرهاب بدفاعها عن جرائم حماس». ثم ما لبث أن وجّه خطابه مباشرة إلى مندوبة بريتوريا، مؤكداً أن «وصفكم إرهابيّي حماس بالسجناء السياسيين، يعني دفاعكم عن قتلة حماس الذين ذبحوا وقتلوا واغتصبوا مواطنين إسرائيليين في السابع من أكتوبر».
سعى الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، إلى تهدئة التوتّر مع واشنطن بتأكيده أن علاقات البلدَين «ليست في خطر»


وجاءت المواجهة في سياق تصعيد جنوب أفريقيا، منذ مطلع آذار الجاري، مواقفها من العدوان الصهيوني، وأحدثها إصدار قرار بإلقاء القبض على حاملي الجنسية المزدوجة ممّن يثبت تورّطهم في القتال في صفوف القوات الإسرائيلية، وهذا ما كرّرته صراحةً وزيرة الخارجية، ناليدي باندور، منتصف هذا الشهر، خلال مشاركتها في تظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، مشجعةً مواطنيها على التظاهر «أمام سفارات» مَن وصفتهم بالخمسة الكبار الداعمين لإسرائيل (أبرزهم الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا). وبينما منيت زيارة باندور إلى واشنطن (19 الجاري) بفشل واضح في تحجيم الضرر المترتّب على العلاقات الجنوب أفريقية - الأميركية، فإن الأولى صعّدت لاحقاً مواقفها ضدّ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بتصريحات مفادها بأن «المحكمة الجنائية الدولية» كانت لتصدر مذكرة اعتقال بحقّ نتنياهو تماماً كما فعلت مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وآخرين، كاشفةً أن بريتوريا لم تتلقَّ أيّ ردود على طلبها المقدّم، منذ أشهر، إلى هيئة المحكمة. ويبدو من التصعيد المستمرّ في مواقف جنوب أفريقيا تجاه إسرائيل، وعدم تراجعها رغم الضغوط الأميركية، فضلاً عن مشكلات داخلية سياسية تعاني منها، أن بريتوريا ونظام حزب «المؤتمر الوطني» الأفريقي مصمّمان على استكمال مناهضة العدوان الصهيوني كخيار أخلاقي وسياسي وحيد يتّسق مع تجربة البلاد التاريخية.

واشنطن على الخطّ: محامي الشيطان!
رغم توتر العلاقات الثنائية بين واشنطن وبريتوريا، بعد توجّه الأخيرة إلى توطيد صلاتها الديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع الصين وروسيا منذ ما قبل أحداث 7 أكتوبر، فإن المواقف الراهنة للدولة الأفريقية أثارت غضباً أميركيّاً غير مسبوق، تجلّى في وصم جنوب أفريقيا بالتبعية لـ«محور الشر» المناهض لمصالح الولايات المتحدة. ورأت باندور، خلال زيارتها الأميركية، والتي لم تلتقِ خلالها بمسؤولين في الإدارة، بل اكتفت بمناقشات مفصّلة مع أعضاء في الكونغرس ومراكز التفكير، أن ثمّة محاولة واضحة لمعاقبة بريتوريا، بدايةً من مشروع قانون مراجعة العلاقات، مروراً بمراجعة استفادة بلادها من «قانون الفرص والنمو الأميركي» الذي من المقرّر تمديد امتيازاته لدول القارة الأفريقية المستفيدة نهاية عام 2025، علماً أنه يوفّر لجنوب أفريقيا إعفاءات جمركية لصادرات قيمتها ثلاثة مليارات دولار، وصولاً إلى الضغط عليها للتوقّف الفوري عن انتقاد السياسات الإسرائيلية في فلسطين.
ويشير تمرير مشروع قانون مراجعة العلاقات الأميركية - الجنوب أفريقية، خلال وجود باندور في واشنطن، إلى عزم الأخيرة على التصعيد التدريجي ضدّ بريتوريا، فيما كشفت مناقشات الوزيرة مع صناع قرار أميركيين، عن طبيعة الضغوط الأميركية المفروضة على بلادها ومساسها أسس السيادة الوطنية. وفي هذا الإطار، يمكن ذكر التساؤلات التي وُجّهت إلى باندور بخصوص «قرار تجمّع بريكس قبول نظم حكم سلطوية بما فيها إيران»، وتفاديها التعليق عليها بإجابة قاطعة، وما تضمّنه نص مشروع القانون من «تهمة» استضافة حزب «المؤتمر الوطني»، في كانون الأول الماضي، «ثلاثة أعضاء من حماس في بريتوريا، بمن فيهم خالد قدومي ممثّل حماس في إيران، وباسم نعيم عضو المكتب السياسي لحماس في غزة».
ومن جهته، سعى الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، إلى تهدئة التوتّر مع واشنطن بتأكيده أن علاقات البلدَين «ليست في خطر»، وأن التضليل الإعلامي الراهن حول قضية الإبادة الإسرائيلية في غزة «لن يوقف جهود الجانبَين للعمل معاً». وفي ما يخصّ مشروع «قانون مراجعة العلاقات»، اعتبر رامافوسا أنه فرصة لتوضيح مواقف بلاده وتصحيح التصوّرات الخطأ عن سياساتها الخارجية، لافتاً، في صياغة تبريرية واضحة، إلى أن جنوب أفريقيا «دولة محايدة تعزّز السلم والأمن والتنمية في القارة الأفريقية وفي العالم».