صار واضحاً تماماً لمن كان لا يزال يشكّك، أن معركة «طوفان الأقصى» وملحقاتها ليست من نوع الحروب النهائية بيننا، وفي الأساس منا الفلسطينيون، وبين إسرائيل، وأن الجنون الإسرائيلي المستعر حالياً، بات في مرحلة الهبوط إلى أرض الواقع المرير الذي سينتهي إلى هزيمة نسبية معتبرة للكيان، سيتعيّن على هذا الأخير في ظلها أن يتعايش مع واقع أن في مواجهته أعداء أقوياء لا يمتلك الأدوات اللازمة لإلحاق الهزائم بهم. لا بل ستُظهر الأسابيع والأشهر المقبلة أن هذه المعركة هي جزء من صراع أوسع وأكثر إستراتيجية، من شأنه هو الآخر أن يؤول إلى حقائق جديدة، يمكن للعقول الباردة في الولايات المتحدة أن تتفهّمها وتتقبّلها أكثر من الرؤوس الحامية لمجانين إسرائيل. وفي المناسبة، تنعكس الواقعية لدى الطرفين الأساسيين في المعركة الإستراتيجية، أي الولايات المتحدة وإيران، اللتين لم تستخدم أي منهما سوى جزء محدود من خياراتها وإمكاناتها فيها.بعض الأسئلة قد يضيء أكثر من الأجوبة على هذا النوع من الخيارات التي كان يمكن أن تقود إلى تفجير الشرق الأوسط بشكل لا يعلم أحد كيف ينتهي. لماذا مثلاً لا تذهب الولايات المتحدة نحو تفجير اليمن بالكامل، وتواصل تقديم العرض تلو الآخر لحركة «أنصار الله» رغم حماوة المعركة القائمة هناك؟ ولماذا تمنع إسرائيل من توسيع الحرب إلى لبنان، الأمر الذي قد يضطرها إلى التورّط في حرب أوسع؟ ولماذا، في المقابل، جرت بقبول إيراني، تهدئة بين فصائل المقاومة العراقية والقوات الأميركية بعد ضربة الأردن التي اعتبرها الأميركيون تجاوزاً لخط أحمر، باعتبار أن الوجود الأميركي في الأردن هو امتداد للوجود الأميركي في الخليج ونقطة وصل بين هذا الوجود وبين إسرائيل؟ ولماذا أحجمت الولايات المتحدة عن الرد مباشرة على إيران مع أنها تتّهمها بالوقوف وراء استهداف قواتها في سوريا والعراق والبحر الأحمر والأردن؟ ولماذا ولماذا الكثير غير ذلك؟
تنعكس الواقعية في المعركة الإستراتيجية بين واشنطن وطهران اللتين لم تستخدم أي منهما سوى جزء محدود من خياراتها


ليس كل ما تقوله أميركا تعنيه فعلاً. وقد أظهرت حرب غزة بالذات الفارق الشاسع بين التصريحات والمُضمرات الأميركية. لكن ما تقوله واشنطن وتعنيه فعلاً، ولا تتحمّل الاحتمال الذي تستبطنه أصلاً، هو أنها لا تريد تفجير الشرق الأوسط الذي قد تستطيع تهشيمه، إلا أنها قد تخسره، إذا فعلت ذلك. وفي المقابل، من الطبيعي أن لا تسعى طهران باعتبارها قوة إقليمية كبرى، إلى تجنّب سيناريو مدمّر كهذا فحسب، بل من الطبيعي أن تعمل لمنعه. لكن إيران تستطيع، وهي تفعل، أن تضغط على أميركا وإسرائيل معاً لمنعهما من الاستفراد بالمقاومة في غزة، وهزيمتها، بما يمكّنهما من فرض شروط عليها تمثل تصفية للقضية الفلسطينية، على رغم محدودية قدرتها على حماية المدنيين وممتلكاتهم في القطاع. وهي مهمة كان يمكن للجهد الإيراني أن يكون فاعلاً فيها بصورة أكبر، لو أن الأطر التي تنظُم العلاقات بين دول المنطقة، وارتباطاتها الخارجية، تسمح بممارسة ضغوط من نوع آخر على واشنطن وتل أبيب، ولولا أن كل من ينتمون إلى تلك الأطر، هم إما عاجزون وإما متآمرون مع أميركا وإسرائيل ضد المقاومة. وفي المناسبة، إن هذه الأخيرة هي قرار فلسطيني في الأساس، وليست قراراً إيرانياً، رغم كل ما يقال عن ملابسات عملية «طوفان الأقصى»، والتي يسعى كثيرون، وفي الأساس إسرائيل، إلى استغلالها لإثارة فتنة، عبر الترويج عبر كل الوسائل الممكنة لمقولات من مثل أن طهران حرّضت «حماس» على العملية ثم تركتها وحيدة، أو أن «حزب الله» كان قد نسّق مع الحركة للقيام بعملية مماثلة عبر الحدود اللبنانية ثم تراجع عن وعده. والجدير ذكره أن من يقرأ الصحف الإسرائيلية، سيجد يومياً مقالات عن ذلك، توازيها تغريدات وحلقات تلفزيونية لصحافيين وتلفزيونات عرب يُعدّون بالمئات إن لم يكن بالآلاف.
يعلم من يقفون وراء حملات كهذه أن الأطراف المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية تتحدّث مع بعضها البعض، وتفهم بعضها البعض تماماً، وتتعاون بشكل يفوق كثيراً ما يتصوّرونه. بل إن من الطبيعي أن يكون ثمة تباين في وجهات النظر بين أطراف المقاومة نفسها حول المدى الذي يجب أن تذهب إليه الحرب. إنما المقصود من تلك الحملات هو إيقاع الفتنة بين البيئات المختلفة للمقاومات، والضغط على كل طرف منها من داخل بيئته، وهذا هو الميدان الوحيد الذي تستطيع فيه الأدوات المذكورة تقديم مضمون في حربها الإعلامية، مع تسجيل تراجع ملحوظ في القدرة المشار إليها، مقابل تقدّم كبير في الأداء الإعلامي للمقاومة في الرد على الحملات المضادة.
هذه الظروف هي التي حتّمت حصر المعركة الفاصلة بصورة أساسية داخل قطاع غزة، إذ بدت المقاومة الفلسطينية مُستفردة، إلا أن الواقع غير ذلك. وهذه المقاومة ليست متروكة لوحدها، وصمودها وتمكّنها يعودان في جزء منهما إلى التعاون مع حلفائها سابقاً وراهناً، وإلا لما تمكّنت من إقامة مثل تلك البنية الصلبة التي تجعل من المستحيل على جيش الاحتلال وكل حلفائه هزيمتها. حرب غزة انتهت عملياً من الناحية العسكرية. والذي يمكن لجيش الاحتلال أن يفعله، فعله كله. ولذا، يبدو الأميركيون مستعجلين للتوصل إلى اتفاق يتيح لهم حصر الخسائر في الشرق الأوسط، والعودة إلى التركيز على حرب أوكرانيا، المتروكة لمصيرها فعلاً.