مرّت أكثر من أربعة أشهر على السابع من أكتوبر المجيد، لا زال المشهد الطوفاني يسجل إيقاعه العنيف في المساحة الكونية. غزة تتحول إلى قلب العالم وعينه، تبدو المسألة غاية في التعقيد. هي ليست مجرد تعداد للأرقام، بين الشهداء والجرحى، والمساحات المدمّرة من غزة، بل تتعلّق بالمقابلة بين الرواية الفلسطينية التي استعادت أحقيّتها بالمشروعية التاريخية، وفي جوهرها مقاومة جبارة تثبت المقدرة الفلسطينية وقدرتها على صنع الاقتدار التاريخي رغم أنف موازين القوى، وبين المنظومة العالمية ومصالحها الممتدة من الغرب إلى الشرق، وهي مقابلة قلّ نظيرها من حيث الوضوح، إلى درجة أنها باتت تصنع أنصارها ومواليها في الإشعاع العالمي. تصنع قواها المجتمعية التي تنتصر للعدالة، وقد باتت تربط بين القهر والظلم، وعدم المساواة وكل آفات العصر الحديث بالمنظومة العالمية، ابتداءً بأميركا والغرب وصولاً إلى إكسسواراتها من أعراب العصر الحديث.
مريم المهندي ـ «قاوم» (زيت على كانفاس ــ 60 × 60 سنتم ـــ 2023)

هناك بعض أوجه الشبه في عملية الاستقطاب التي حدثت في بدايات القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وبين عملية الاستقطاب التي بدأت تتبلور قبل الطوفان. ميزة الطوفان أنه دفعها إلى الحد الأقصى، بحيث صار بالإمكان تلمّس وحدة الموقف عند الرأي العام العالمي من العناوين المطروحة. وهو ما يحوّل «طوفان الأقصى» بكل آلامه وخسائره إلى نقطة استثنائية في عملية تحوّل النظام العالمي. وهو ما يحتمل أيضاً نقيضه، بمعنى أن تستطيع المنظومة الحالية إعادة إنتاج قوتها. بهذا المعنى يصحّ القول في الطوفان الفلسطيني، إنّه يحمل إمكان قهر وقبر السيستم، فيما لو نُظر إليه من هذه الزاوية. وعليه فإن قوى المقاومة الفلسطينية تتحمل مسؤولية الموقف التاريخي، الذي يعمّق الصراع. إنّ فهم الحيوية اللافتة للسيستم تجاه الإبادة في غزة، يجب أن يوضع في سياقه الطبيعي. صحيح أنه ناتج من صمود شعبنا الفلسطيني وقواه المقاومة في غزة، وبالتالي فشل تحالف الإبادة (العدو الإسرائيلي، الغربي، اليعربي)، وهو إنجاز فرض نفسه على كل اللاعبين الفاعلين، وربما شكّل صدمةً كبيرة لهم تجاوزت كل توقعاتهم. لكن الصحيح أيضاً، أنّ هذه الحيوية لإطلاق النقاش السياسي يستهدف في استهدافاته المباشرة تحقيق إنجازات في السياسة تتناقض مع الوقائع الميدانية. هي ليست المرة الأولى التي يتحرك السيستم فيها بهذه المنهجية، فلنا في تجربة حرب الـ2006 نموذجاً يمكن إسقاطه على هذه الحركة، والأصح أكثر وأكثر في هذه الحيوية أنها تأتي لإنقاذ السيستم نفسه، ذلك أن المهزوم ليست إسرائيل وحدها، بل كل المنظومة ومصالحها.
إنّ مهمة قوى المقاومة في الحرب السياسية المترافقة مع الوقائع الميدانية هي الصمود بالسياسة.صمودٌ ينسجم مع حجم التضحيات التي قُدمت وما زالت، مع حجم الجهود التي بُذلت في كل المنطقة والعالم أجمع، ولا سيما بعدما تحققت عملية فرز كبيرة على المستوى الإقليمي والعالمي، فصار بالإمكان تظهير معسكر المقاومة مقابل معسكر العدو. والمهمة ليست سهلة إزاء الرشى والضغوطات، ولكن إذا كان العنوان هو إقناع السيستم النزول بالقوة عن الشجرة والاقتناع أنّ العالم بقضه وقضيضه أمام طور جديد مختلف كلية عن السابق، فإن تعميق الصراع وإدامته بأشكال متنوعة، يجب أن يفضي إلى الاعتراف بالطور التاريخي الجديد، عنوانه الفلسطيني يتمثل في القبول والاعتراف الرسمي بالرواية الفلسطينية، وبالتأكيد له عناوين أخرى على مستوى العالم ومنظوماته المسيطرة.
بهذا المعنى، يمكن الإشارة إلى الميزة الأهم لمرحلة «طوفان الأقصى»، التي تتمثل في أنّ القوى المتضرّرة من انتصار المقاومة واضحة كل الوضوح، مهما تلوّنت أو تخفّت، ولأنّ خسارتها تأتي في مرحلة حساسة من التاريخ العالمي، فإنه من الخطأ الركون إلى قناعة تفيد بأن السيستم مأزوم ويتراجع فقط وإن كانت مقولة حقيقية. ذلك أنّ هناك معادلة وجودية بالغة الحساسية وواضحة لطرفَي المعادلة، الهزيمة أو الانتصار. بهذا المعنى، فإنه كما مثّل «طوفان الأقصى» ضربةً وجودية للكيان الصهيوني لها ما بعدها، فإنّ «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة التي تلته وتماسك قوى المقاومة كل في جبهته، طرح خطراً وجودياً على السيستم، بحيث تحرّك بسرعة من أجل احتواء النتائج وتحويلها إلى فرصة للقضاء على حركة المقاومة أو إضعافها، عبر عملية سياسية يشارك فيها كل الأطراف المتضررة من انتصار المقاومة، والرشى المتمثلة في الحديث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هي واجهة العملية السياسية الخبيثة.
لقد كان واضحاً منذ العشرية الثانية في القرن الحادي والعشرين، أنّ حركة التاريخ تمرّ بمرحلة هشاشة وضعف بالغَين، وصفها بعضهم بمأزق النظام العالمي، وأن العالم يعيش مخاض عملية التغيير، وهي عملية عملت في مراحل تاريخية سابقة على القضاء على دول وإظهار أخرى، وهو ما مثّل فرصةً تاريخيةً للانقضاض الفلسطيني لاستثمارها، وقد جاءت خطوة السابع من أكتوبر كخطوة هجومية فلسطينية قلّ نظيرها في تاريخ الصراع، لتعمل على نقل الفرصة والقدرة الاستثمارية من حيزه الممكن إلى الممكن الواقعي بالقوة. لكنها بعد ذلك محطة في الصراع مع العدو، فما بعد «طوفان الأقصى»، هناك طوفان فلسطين وإعصارها، ولهذا عدة شغله وتحضيراته، وترتسم بناءً عليه أدوار ومسؤوليات تطال الكلّ الفلسطيني أفراداً، ومجموعات وأطراً، ومعه كل الحلفاء والمؤمنين بقضية الشعب الفلسطيني، وهو ما يتطلب:
أولاً: تماسك الطرح السياسي الفلسطيني، وحتى الآن لا شيء يشير إلى تهافت قوى المقاومة الفلسطينية سياسياً وهو ما يُحسب لها. إنّ أخطر ما يواجه المعركة الآن يتمثل في المشروع السياسي الأميركي، والجهود والضغوط التي تمارس فوق الطاولة وتحتها، وإفشال المشروع الأميركي، وصدّ الضغوط من القريب والبعيد يساعد في حفظ الإنجاز الفلسطيني المتحقق في المعركة الحالية والوصول إلى إنجازات بالسياسة أكبر.
استعادت القضية الفلسطينية أحقيّتها بالمشروعية التاريخية


ثانياً: صياغة المشروع السياسي الفلسطيني الذي يتناسب والرواية الفلسطينية، والعمل بأفق وطني من أجل إستراتيجية فلسطينية واحدة، وليس من المنطقي أن يعود النقاش الداخلي إلى ما قبل السابع من أكتوبر.
ثالثاً: ترسيخ مفهوم وحدة الجبهات والتمسّك به وتطويره على قاعدة أنّ المعركة الحالية أعادت الاعتبار إلى البعد القومي والإسلامي والأممي للمعركة، فدخول قوى المقاومة في جبهات اليمن، العراق ولبنان، ومشاركة الضفة الفاعلة رسّخ مفهوماً جديداً يقول بأنّ نظرية الاستفراد بجبهة واحدة ولّت إلى غير رجعة، وإنّ أي مواجهة مع طرف يعني دخول الأطراف الأخرى، وهو ما يزيد من كلفة الصراع.
رابعاً: تهيئة البيئة المناسبة لإنتاج تحالف عالمي يجمع كل القوى المناضلة في سبيل العدالة والحرية والمؤمنة بحقوق الشعب الفلسطيني. تحالف واضح يتقاطع مع الحركة العالمية المناضلة ضد السيستم، فالجماهير الأممية وقفت بصلابة ضد الإبادة في غزة، ولم تكتف بذلك، بل عملت على خلق لوبي ضاغط بوجه السياسات، أي إنها لم تكتف بالضغط من أجل وقف جريمة الإبادة، بل بدأت تضغط باتجاه تغيير السياسات، وعليه فإن التقاط هذه الفرصة وتأطيرها، في إطار الإستراتيجية الفلسطينية يحتاج إلى جهد كبير وقبل ذلك وعي بجديتها وأهميتها.
إن التطورات الأخيرة، التصعيد على جبهة البحر الأحمر والعدوان الأميركي على العراق وسوريا ضد قوى المقاومة فيها، يشير إلى تعقيد إضافي، بمعنى أنّ الصراع وصل إلى ذروة جديدة وهو ما يعني في ما يعنيه، أنّ المنطقة والعالم أمام محطة فاصلة تقود إلى أحد الاثنين: إما دخول الصراع في مرحلة جديدة أو صعوداً أو الذهاب إلى تسوية سياسية، ولكل من الخيارين متطلباته. وبغض النظر عن ذلك، فإنّ تحول الشعب الفلسطيني إلى قائد، قلب وموجه إلى الحركة العالمية للنضال ضد الغرب ومنظومته من أجل عالم أفضل، هو تحدٍّ يجب على قوى المقاومة الفلسطينية أن تجيب عليه، لأنه يتحول إلى إجابة تاريخية عن احتلال فلسطين.

* كاتب وباحث فلسطيني