ما إن أصدرت «محكمة العدل الدولية» حكمها الأوّلي في الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضد العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيّين، في 26 كانون الثاني الفائت، والذي مهّد الطريق، عملياً، أمام المضي قدماً في وصم العملية الإسرائيلية بـ«الإبادة»، بدأت بريتوريا تتعرض لعمليات ابتزاز وضغوط خارجية مباشرة، كشف عنها، أخيراً، عددٌ من القيادات في «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي» الحاكم. وهي عمليات لا تخرج عن سياق حملة «النظام العالمي» الأميركي، والتي تهدف، بصورة عامة، إلى حماية قواعد اشتباك الأخير مع دول «الجنوب العالمي»، بما فيها منطقة شرق المتوسط.
استشراف العقوبات الغربية
عقب الإعلان عن الحكم، احتفت قطاعات شعبية وسياسية وإعلامية واسعة، في جنوب أفريقيا، بالانتصار الأخلاقي الكبير الذي حققه بلدها ضد إسرائيل، التي ينظر إليها، على نطاق واسع في أوساط تلك القطاعات، على أنّها «وريثة» نظام العنصرية الذي تفكّكت أركانه، رسمياً، في جنوب أفريقيا، قبل ثلاثة عقود (1993-1994). وإذ تزامن تقديم الدعوى الجنوب أفريقية مع بدء عمليات تسجيل أسماء الناخبين، قبيل الاستحقاقات الانتخابية، الوطنية والإقليمية، التي تنتظر حكومة الرئيس سيريل رامافوسا، فإنّ بريتوريا تستشرف، على خلفية موقفها من الحرب على غزة، عقوبات اقتصادية غربية وإسرائيلية، بدأت تتمظهر ملامحها بالفعل. وتطرقت نومفولا موكونيان، نائبة الأمين العام لـ«المؤتمر الوطني الأفريقي»، في 28 كانون الثاني، إلى هذه النقطة، مشيرةً إلى أنّ بلادها تستعدّ لـ«عقوبات اقتصادية محتملة من إسرائيل وحلفائها»، مؤكدةً، في المقابل، أنّ مثل تلك العقوبات ستكون بمنزلة «جائزة»، نظراً إلى أنّ «القوى الاقتصادية العالمية» ستكون قد اتّخذت إجراءات ضدّ جنوب أفريقيا «بسبب موقفها من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي»، لا بناءً على أيّ خلفيات اقتصادية فعلية.
وحتى الآن، ألغت شركات إسرائيلية استيراد محاصيل زراعية، من مثل العنب، من جنوب أفريقيا، تمهيداً على الغالب لحظر استيراد موارد أخرى، علماً أنّ حجم التبادل التجاري بين الجانبين، في السنوات الأخيرة، كان محدوداً، إذ لم تتجاوز واردات إسرائيل من جنوب أفريقيا، عام 2022، الـ72 مليون دولار (معظمها من الفاكهة والخضراوات، التي بلغت قيمتها نحو 32 مليون دولار)، ما يعكس تراجعاً كبيراً ومستمراً عن عام 2011، الذي عُرف بـ«عام الذروة»، بعدما بلغت فيه قيمة الواردات المشار إليها نحو مئة مليون دولار. كما هدّد عددٌ من الشركات الإسرائيلية العاملة في جنوب أفريقيا بوقف أنشطتها فيها. بدورها، وبعد ساعات قليلة من صدور الحكم، أعلنت شركة «العال» الإسرائيلية أنها ستوقف رحلتها المباشرة الوحيدة، بين «تل أبيب» وجوهانسبرغ، ابتداءً من أول نيسان المقبل، بذريعة «التراجع الحاد في الطلب على حجز مقاعدها»، وهو ما يعني عملياً، غياب أي طيران مباشر بين الطرفين، للمرة الأولى منذ عقود، طبقاً لوسائل إعلام عبرية.
تأثير «المقاطعة» الإسرائيلية على جنوب أفريقيا سيكون على الأرجح «هامشياً»


وبينما رحّب عددٌ من وسائل الإعلام الأميركية «بحفاوة» بالخطوات الإسرائيلية، محاولةً الإيحاء بأنّ المزارعين والشركات في جنوب أفريقيا «يخشون من الأضرار» التي ستترتب عليهم، فإنّ تأثير هذه «المقاطعة»، حتى في حال اكتمالها، سيكون «هامشياً» على البلاد، نظراً إلى أنّ إسرائيل تحتل المرتبة الـ48 على قائمة الدول المستوردة لبضائعها؛ فعلى سبيل المثال، لا تتجاوز نسبة استيراد إسرائيل من العنب الـ4%، وهي نسبة يمكن إعادة توجيهها نحو أسواق أخرى بسهولة. كما حاولت المصادر الغربية نفسها الزعم بأنّ المخاوف الجنوب أفريقية غير مقتصرة على العلاقات مع إسرائيل، بل تشمل الضرر الذي يمكن أن يلحقه الموقف الإسرائيلي بعلاقة البلاد مع الولايات المتحدة، ولا سيما على المستوى الاقتصادي، والترويج لكون النقابات وبعض القطاعات الحكومية في جنوب أفريقيا تتخوّف من تأثير المقاطعة الإسرائيلية، ومن خلفها الأميركية، على الاقتصاد. على أنّ هذه المزاعم لا تأخذ في الحسبان قدرة جنوب أفريقيا على استبدال السوق الإسرائيلية بأسواق إقليمية ودولية بسهولة بالغة، والمرونة الفائقة التي يتمتع بها الاقتصاد الجنوب أفريقي، جنباً إلى جنب مع الأهمية التي يكتسبها كسوق صادرات دولي للمعادن، وتحديداً إلى الولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها. بالتالي، إنّ الضرر المترتب عن أي خطوة أميركية في اتجاه وقف استيراد المعادن على الصناعات الأميركية، سيعادل تقريباً ذلك الذي قد يلحق ببريتوريا. وعلى أي حال، إنّ التلويح بالعقوبات الأميركية يأتي استكمالاً لنهج واشنطن القديم المتمثل باستخدام العلاقات الاقتصادية كأداة ضغط على الدول، للحفاظ على هيمنتها، وهي تهدف هذه المرة إلى منع تحول نظام بريتوريا إلى نموذج أفريقي «غير مسبوق»، يجمع ما بين وجود نظام ديموقراطي راسخ وصحي بشكل كبير، وعلاقات خارجية مستقلة ومتوازنة، بل حتى مناهضة للهيمنة الغربية في بعض المحطات، كما في حالة الحرب على غزة.

«النموذج الجنوب أفريقي»
في الواقع، شكلت جنوب أفريقيا مثالاً استثنائياً على قدرة الدول على الاستفادة من المتغيرات الدولية، التي تكثّفت في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد الحرب الروسية - الأوكرانية، لتحقيق مكاسب اقتصادية، ترتكز على تعزيز مقدّرات الاقتصاد الوطني واستدامتها، بدلاً من تعميق التبعية للخارج، كما هو الحال في معظم دول القارة السمراء. وهي حققت ذلك مع الحفاظ على «نظرة إيجابية» إلى اقتصادها في عام 2024؛ إذ طبقاً لتوقعات «بنك أوف أميركا» نهاية الشهر الماضي، فإنّ الأصول المحلية ستتفوق على العائدات الخارجية لبريتوريا في عام 2024، وسيصل سعر صرف الراند مقابل الدولار إلى 17.73، نهاية العام الجاري، نزولاً من 19 رانداً. كما سيشهد الاقتصاد الكلي للبلاد، طبقاً للمصدر نفسه، تحسناً في الأداء، في حال نجاح «المؤتمر الوطني» في التحالف مع «الأحزاب الصغيرة»، والفوز في الانتخابات القادمة.
في المقابل، شكّلت جولة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الأفريقية، الشهر الماضي، والتي انتهت بمكالمة هاتفية مع نظيرته الجنوب أفريقية، ناليدي باندور، عشية إصدار «محكمة العدل الدولية» قرارها، بعدما حمّل 210 أعضاء في الكونغرس الأميركي، بلينكن، في 23 كانون الثاني، خطاباً مفتوحاً، يتضمن «إدانة جنوب أفريقيا لرفعها قضية لا أساس لها إطلاقاً ضد إسرائيل»، وجهاً من أوجه الابتزاز الذي تمارسه واشنطن على بريتوريا. ومن المؤشرات على أنّ الأولى بدأت تمهّد أخيراً، للانتقال من مرحلة الابتزاز، إلى مرحلة العقوبات المحتملة، بدأت الرواية الإسرائيلية تتعمّد إلحاق الضرر بالاقتصاد الجنوب أفريقي. فعلى سبيل المثال، تحدّثت صحيفة «جيروزاليم بوست»، الشهر الماضي، عن «اكتشاف» شبكة مؤلفة من عدد من المنظمات والشركات الجنوب أفريقية، «متورطة» في تمويل أنشطة «حماس» عبر «مؤسسة القدس» الخاضعة لعقوبات أميركية، والتي تعتبرها إسرائيل أيضاً «غير قانونية»، زاعمةً أن تلك الشبكة تستخدم في أنشطتها حسابات في بنوك جنوب أفريقية كبرى، من مثل «ستاندارد بنك»، «ونيدبنك»، «وأبسا» (Absa). وعلى الأرجح، ترتكز الهجمة الغربية، التي تقودها واشنطن، ضد بريتوريا، على قناعة في أوساط صنّاع السياسة الأميركية بأنّ الأخيرة تنوي، مستقبلاً، اتخاذ خطوات إضافية مناهضة للكيان الإسرائيلي، وسط دعم دولي متزايد، وتوجيه المزيد من «الصفعات»، الأخلاقية أقله، إلى واشنطن، في وقت يهدّد فيه عددٌ من الأطراف الدولية «الوازنة»، والمقربة من جنوب أفريقيا، نفوذ الولايات المتحدة على الساحة العالمية.