القاهرة | هتاف ساخن وغير مسبوق منذ سنوات استمرّ دقائق معدودة، لكنّه كان كفيلاً بإثارة غضب ألسنة النظام المصري الإعلامية، أو بتعبير أدقّ الألسنة المخصّصة للهجوم على المعارضين، فيما الحقيقة الأهم هي عودة الروح أخيراً إلى سلالم «نقابة الصحافيين المصريين» بعد سنوات من حصار يشبه ذلك المفروض حالياً على قطاع غزة.يُعاني النظام المصري من حساسية مفرطة تجاه أي اتهام بالتورّط في الحصار على غزّة أو على الأقل الوقوف ساكناً إزاء المجازر الإسرائيلية اليومية. فقد انتفض إعلام النظام قبل أيّام للرد على ممثل كيان الاحتلال في محكمة العدل الدولية (الأخبار 15/1/2024)، بعدما ألقت تل أبيب كرة منع دخول المساعدات في ملعب القاهرة. لكن الضربة الجديدة جاءت من قلب المحروسة، إذ نظّمت «نقابة الصحافيين» وقفة تضامنية مساء الإثنين الماضي، في مناسبة مرور مئة يوم على بدء العدوان على غزة. جاء ذلك في وقت عادت فيه الوقفات التضامنية إلى القاهرة، بعدما أسقط الصحافيون في آذار (مارس) الماضي مرشّح النظام خالد ميري ليفوز مرشّح المعارضة خالد البلشي بمنصب النقيب وتنتهي أربع سنوات كاملة من حصار أدّى إلى إغلاق المبنى بحجة التجديد فيما غابت سلالم النقابة. الأخيرة كانت تعدّ إحدى أشهر نقاط انطلاق تظاهرات ثورة يناير 2011، وهي التي أعلن نظام السيسي عداءً مباشراً لها في أيار (مايو) 2016 بعد تظاهرات معارضة لقرار التنازل عن جزيرتَي تيران وصنافير. كان يفترض أن تستمر الوقفة لمدّة ساعة أمام عيون رجال الأمن والمراسلين الأجانب (لا تغطية حقيقية في الصحف المصرية)، لكن ظهور الناشط أحمد دومة قلب الموازين، على الرغم من أنّ شهود عيان يؤكدون أنّ هتافاته لم تستمر سوى دقائق. لكن الأزمة تمثّلت في ما قاله دومة في هتافه: «يا دي الذل ويا دي العار مصر مشاركة في الحصار... معبر بينا وبين أهالينا... والصهيوني بيتحكم فينا... وطول ما الدم العربي رخيص... يسقط يسقط أي رئيس... عملوها أحفاد مانديلا... واحنا في خوف وفي عار ومذلة». مقطع انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، قبل أن يستغلّه الصهيوني إيدي كوهين على منصة X معتبراً أنّه «دليل على صحة دفوع» كيان الاحتلال في محكمة العدل الدولية. هنا، قامت الدنيا ولم تقعد في الإعلام المصري، وتحديداً من قبل الوجوه القديمة التي يعتمد عليها النظام في معاركه، كون الوجوه المحسوبة عليه التي فرضها على الشاشة لا تتمتع بأي تأثير. هكذا، خرج أحمد موسى متوعّداً دومة عبر شاشة «صدى البلد»، واصفاً إيّاه بـ «المجرم المحرّض على البلد الذي يردّد كلام جماعة الإخوان المسلمين والكيان الصهيوني»، مطالباً بمحاسبته. وعلى شاشة قناة ten، قال نشأت الديهي إنّ دومة شخص «حقير يذكّره بما حدث من تدمير لبعض الدول بسبب النشطاء وأنّ الشعب المصري «قرف منهم»، في الوقت الذي استعادت فيه مواقع صحافية عدّة السجلّ الأمني لدومة الذي أمضى عشر سنوات في الحبس بتهمة حرق المجمّع العلمي عام 2013، وخرج في عفو رئاسي في آب (أغسطس) الماضي قبل خمس سنوات من انتهاء محكوميّته. وسلّطت منابر الضوء أيضاً على اعتقاله في عهد محمد مرسي وحسني مبارك بسبب محاولته العبور للتضامن مع غزة عام 2009. صحيح أنّ موقف الناشط من غزة ثابت منذ 15 عاماً، لكنّها معلومة لم يلتفت إليها أحد وسط حملة الدفاع عن سمعة النظام المنهارة أصلاً بسبب استمرار الحصار وعدم وجود حراك مصري حقيقي لدعم أهالي غزة، وسط الاكتفاء بتصريحات رفض التهجير. حتى إنّ أحداً لم يلتفت إلى ردّ دومة على إيدي كوهين ورفض استغلال الأبواق الصهيونية لهتافاته في سبيل تبرئة تل أبيب من جرائمها في غزة.
ولعلّ أطرف ما حصل في الساعات الماضية يتمثّل في ما قاله مدوّن محسوب على النظام يدعى لؤي الخطيب اعتبر دخول مدير مكتب مراسل «الجزيرة» في غزّة وائل الدحدوح إلى مصر، ردّاً على دومة وأمثاله، وأنّ دور مصر «واضح» في دعم الفلسطينيين، وفي مقدمتهم الدحدوح الذي دخل المحروسة لمعالجة يده التي أصيبت جراء غارة إسرائيلية، قبل أن يتضح سريعاً أن مصر ما هي إلا محطة «ترانزيت» عبرها «أبو حمزة» وصولاً إلى الدوحة. إما أنّ المدون «السيساوي» لم يعرف هذه المعلومة باكراً، أو أنّه تقصّد التعامي عنها لعلّه ينفي بمعلوماته المنقوصة ما أثبتته هتافات دومة.