المنافسة بين علم الكلام والفلسفة في الثقافة العربيّة-الإسلاميّة وقعت منذ التقائهما؛ الفلاسفة، كالفارابي مثلاً، ومع تقديرهم لمهارات المتكلّمين في خدمة المِلّة، أدرجوا أدوات علم الكلام عموماً في الخطابات الجدليّة التي تهدف إلى إقناع السامع والتأثير فيه من غير أن تكون استدلالاتها تامّة أو مولِّدةً لليقينيّات الحتمية. ومع أنّهم تحاشوا غالباً القول بأنّ هذه المجادلات تنطوي على مغالطات منطقيّة، فإنّهم حين تكلّموا على فلسفتهم رفعوها إلى مستوى المخاطبات البرهانيّة، واعتبروا أنّ هذه الأخيرة أتمّ المخاطبات وأجلبها لليقين. ومع ذلك، ثمّة مَن يُحاجّ بأنّ علم الكلام أنفع للدين من الفلسفة، أو قُل إنّ علم الكلام أنجز حقيقةً ما قال إنّه كفيل بإنجازه، أي الدفاع عن مجموع الاعتقادات التي تجتمع عليها فرقة أو مذهب. أمّا الفلسفة، بكلّ تيّاراتها، فإنّها لا تزال بعيدةً عن توليد يقينيّات يسلّم لها البشر أجمعون. وعلى الرغم من «تطعيم» الكلام بأدوات برهانيّة ومنطقيّة كثيرة على مرّ الوقت، فإنّ سلاح المتكلّم الأمضى بقيَ تغليط الخصم، وإيصال مُحاجّته إلى نوعٍ من العقم الذاتي الذي يتمثّل في إظهار التعارض الداخليّ لكلامه. وبالمثل، فإنّ دفاعه الأقوى يكون في ألّا يوصل حجّته هو إلى مِثل هذه المفارقة. ومتى تهاوى الخصم وبطل رأيه، يرى المتكلّم أنّه قد نجح في تكذيب النسخة المعارضة للحقّ الذي هو عليه.
وإن نجح في تكذيب المعارضين كلّهم، فإنّه يكون قد استوفى الذبَّ عن موقفه ومذهبه (ولهذا، فإنّ كثيراً من كُتب الكلام تُعنى بِـ«الردّ على كذا وكذا»)، إذ لا بدّ في النهاية من بقاء «طائفةٍ ناجية» على نحوٍ ما. وهذه طريقة غير برهانيّة كما ترى، غير أنّها نافعة في الحِجاج باعتراف الفلاسفة أنفسهم.
ومِن أقدم الأدوات التي لجأ إليها أهل الكلام مبدأ عُرِف بـ«خرق العادة»، وثمّة تنويعات عليه من قبيل «خرق الطبيعة»، أو الكلام على «الخوارق» بصورة عامّة. ولا حاجة إلى التفصيل كثيراً، بل يُمكن الإشارة إلى الجدل حول معجزات الأنبياء، إذ الأساس فيها أنّها تخرق ما ألِفَتهُ الفهوم وتعوّدت عليه الأذهان، ولذا فإنّها من أدلّ الدلائل على النبوّات. وقد صار هذا المبدأ طريقة مفضّلة لدى المتكلّمين للاستدلال، ولو بنحو القرينة، على أمور كثيرة ترتبط بالمعجزات وبغيرها.
ولكن وقع الخلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين في تفسير الخوارق أو المعجزات وإمكانية وقوعها. فهل للطبيعة قوانين يُبطلها المُعجِز لبرهةٍ من الزمن حتّى يَبين صِدق النبيّ؟ أمّ أنّ غاية ما في الأمر أنّ الأذهان اعتادَت توالي الظواهر الطبيعية والإنسانيّة على نحوٍ معيّن وبِتعاقُبٍ مُتَكَرّر، فظنّت أن بَينها سببيّةً، فيما الحقيقة أنّه جريان للعادة ليسَ أكثر، لأنّ الفاعِل هو الله وحدَه في كلّ شيء؟ وهذه نظرية الغزالي ومَن جاء بعده من الأشاعرة.
وكما في المثال المشهور، فإنّ النار لا تُحرِق القطن بذاتها، بل الله هو مَن يُحرِقُه في كلّ مَرّة تقترب فيها النار من القطن. ولذا، فإنْ لم تُحرِق النارُ القُطنَ في زمنٍ ما، فليس ذلك خرقاً للطبيعة، بل هو خرق للعادة التي استقرّت عليها الظواهر في مألوف أفهامنا.
ومهما يكن الآن من أمر هذا التفسير، فإنّه إنْ كان لنا أن نحامي عن عقيدة المقاومات، فإنّا نجد خيوطها تُحاك بالضبط حول إمكانيّة «خرق العادة». المستعمِر الغازي جاءَ إِلينا وفي ذهنه أنّ العادة استقرَّت بأنّ القويّ يأكل الضعيف، وأنّ الضعيف إمّا أن يُقتَل ويَفنى وإمّا أن يخضع ويذلّ. هذا ما تعوّده هو في تاريخه الخاصّ وما ألِفَه مِن المجازر التي دانَت له بعدها رِقاب أفريقيا والأميركَتَيْن (وفي الحقيقة فإنّ هذا هو جوهر الحداثة في أذهانهم؛ إنْ كنّا كأوربيّين قد أخضعنا الطبيعة بالملاحظة والنمذجة الرياضية والتقنية العلمية، فنحن، بطريق أَولَى، قادرون على إخضاع «سلالات القرود البائسة» الأقلّ تطوّراً منّا، ولن تدفع عنهم إِلهيّات ابن سينا ولا شروح ابن رشد من الحديد والنار شيئاً).
المقاومة تراكم مُضنٍ للخبرات والإنجازات الصغيرة، وصبر جميل مُنهك على اليُتم والألم


والحقّ أنّ هذه العادَة جَرَت في لَحمنا وَوَعينا عقوداً طويلَة، واستكان المُستعمِرون إلى إلفتنا بها، وجاء مِنّا مَن لم يَحِد عنها، لِفَقرٍ في عقله ونفسه. وكلّ مَن فكّر في خرق هذه العادة – أو أي عادةٍ أخرى يُراد لنا أن نعتنقها، فقط لأنّها بيضاء أوروبيّة تسرّ الناظرين – لم يكن ليجد لا فيلسوفاً برهانيّاً ولا متكلّماً جدليّاً يردّان عليه، لا مِن المشرق ولا مِن المغرب، فالإجابة الوحيدة في جعبة طلائع النهضة والحداثة هي القتل والتنكيل.
فالتمثيل الأقرب إلى حال المقاومين في دفاعهم وممانعتهم هو أنّهم أشبه بمتكلّمي ذلك الزمان. هم ليسوا برهانيّي هذه الأمّة بالضرورة، ولكنّهم بلا أدنى شكّ أعقلُ مَن فيها. وهم ليسوا بالضبط أهل المُثُل الفلسفية، ولكنّهم بلا تردّد أفضل مَن دافع عن هذا الوجود ببشره وحجره. ولأنّ الأمر كذلك، فإنّهم يفهمون أنّ واجبهم يكمن في إيصال الخصم إلى حالةٍ من التعارض الداخليّ التي يُمسي فيها كلّ وجوده وجهده وحربه عبثاً ووهماً. فما معنى أن تأتي بكلّ نارك ثمّ لا تحرق قطن هؤلاء الفلّاحين وأبنائهم؟ أو أن تحشد كلّ جبروتك فيسخر منك حفاة الأقدام في اليمن وغزّة؟ أو أن تمخر عباب المضيق بالتحالفات فتأتيك المُسيّرات والمجنّحات تَترى؟ هذا سلاح المقاومة الأمضى في الوعي: خرق العادة تلو العادة، حتّى يصير هذا الفعل هو المُعجِز الذي لا يكفر به إلّا مَن كان في حاله كحال أبي لهب (أو قُل إن شئت، ولا أسف، كحال أبي مازن).
والمسألة ليست بطولات على طريقة أفلام هوليوود التي تروي مآثر البطل الأميركيّ وعتاده المتفوّق. إنْ دَقَّقتَ، فهم مادّيّون حَتى في هذا الأمر: هذا البطل مجرّد هراء من دون كل ذلك العتاد، ولكنّ عَليك أن «تَتَعَوَّدَ» أنتَ كذلك على أنّ العتاد مقدّمةٌ لبطولاتك لا العكس. فإذا رأيت أن سلاحك لا يُضاهي الاختراعات التي يحشرها جيمس بوند في باب سيارته، ظننتَ في نفسك الضعف ابتداءً وصعبت عليها ملاقاة الحتوف.
المقاومة تراكم مُضنٍ للخبرات والإنجازات الصغيرة، وصبر جميل مُنهك على اليُتم والألم. لأنّ العدوّ سيعارضك، بالضرورة، بكلّ ما أوتيَ مِن قوة في كلّ مرّة تفكّر فيها بخرق عاداته التي يحبّ ويألف. ولو لم يفعل، لكَانَ ذلك أصلاً خرقاً لعادات أسلافه من الغزاة المحتلّين. ولذلك، فكلّ مقاومةٍ ستُواجَه بضريبة كبيرة في الدماء والأرواح، وسيتمّ تسخيفها والنيل منها، ثمّ سيخرج مِن بين ظهرانيها مَن يتحدّث عن التعب وهو لا في العير ولا في النفير. وليس مِن حلّ سوى أن تَتَنزّل على المقاومين والمقاومات، وأيتامهم ومَن خلّفوا وراءهم، آياتُ المجابهة مرّةً بعد مرّة، إلى أن يقع المعجِز، فلا تعود النار تحرق القطن.
وأبعدُ مِن تجريد السيوف والاصطفاف للقتال، فإنّ الفعل المقاوم برمّته هو في نهاية المطاف خروج على العادات التي سنّها المستعمِر في السياسة والثقافة والفنّ والمَلبَس والمأكَل والمَشرب، وإيمانٌ بأن لا منفعةَ تُرتَجى من أيّ شيء جاء منه، خيرِه وشرّه (وإسلاميّة المقاوَمات اليوم، في كلّ جبهات القتال، لم تولَد بمحض مصادفة).
أنا لستُ أشعريّاً بالضرورة، ولا أتبع قول الغزالي، ولكنّي أفهمُ المقاومة كفعل إيمانٍ بالمعجز، وإمكانٍ لخرق كلّ عادة أميركية. في كلّ مرّةٍ يظهر مقاتل على مسافة الصفر من الدبابة، إن ارتَعَش القلب أو تشكّك الذهن، فلأننا ألِفنا أن الدبّابة (النار) تحرق البشر (القطن) بالضرورة، واستقرّ الأمر في النفوس، مع أنّه لا حتميّة في ذلك. وربّما ما كنّا لِنهتَديَ لولا أنْ بعثَ اللهُ فينا نبيَّ مُقاومَتِنا مُغنيّة. فعلى هذه الأرض «مَن» يستحقّ حياةً أفضل مِن تلك التي قرّرتها أوسلو أو ثورات أميركا الملوّنة. يَد الله التي مَدّت إليهم السلاح، من جنتا إلى حَجّة، هي التي دكّت الدبشة ذات اقتحام، وحملت العبوة إلى تلك الدبابة في غزة، ورَمَت يوم الطوفان وما بعده، وهي التي ستكون فوق أيديهم يوم الفتح الأعظم.

* باحث لبناني