لا يمكن لأحد أن يزعم أن ثمّة إجماعاً شعبياً في القطاع على عملية «طوفان الأقصى»؛ إذ إن غزة مجتمع بشري عادي، وليس أسطورة كما يعتقد البعض، وطبقاته المجتمعية متباينة في مدى حضور القيم الوطنية والدينية في حياتها، لا بل إن ثمّة طبقة كبيرة تشغلها همومها الذاتية: التجارة، الأبناء، الأسرة الصغيرة، عن كلّ شيء آخر. وحينما تتعرّض تلك الكتلة البشرية المتباينة لضغط كبير كالذي تعايشه منذ ما يزيد عن 80 يوماً، من المنطقي أن تنتج من ذلك ردود فعل متباينة.ثمّة مَن يرى، هنا، أن الثمن الذي دُفع في «طوفان الأقصى»، أكبر بكثير من الهدف السياسي والعملاني الملموس الذي يمكن تحقيقه، وهو ما يعبّر عنه البعض بالقول «حرقنا الغابة، من أجل أن نقلي بيضة». غير أن ثمّة طبقة كبيرة أيضاً تنظر إلى «طوفان الأقصى» على أنها معركة بداية زوال إسرائيل، أو على الأقلّ، معركة كسر العربدة الإسرائيلية في المنطقة. هؤلاء الذين يقرؤون المواجهة من وجهة نظر سياسية، يؤمنون بأن أيّ ثمن يُدفع في سبيل المقاومة، هو أمر مستحقّ، لأن نتائجه ستكون من نصيب الأجيال المقبلة التي ستعيش بلا شكّ حياةً مغايرة لِما عايشته أجيال النكبة السبع. كما أنهم لا ينظرون من برج عاجي، بل هم دفعوا ثمناً مريعاً من دماء أبنائهم وعائلاتهم وأرزاقهم. أمّا السواد الأعظم في المشهد، فهم أولئك الذين يعيدون كلّ خطب ومصيبة إلى مشيئة الله وقَدَره، ويبدؤون كلّ حديث عن استشهاد العائلة وهدم البيت وبتر أطراف الأبناء بـ«الحمد لله». يؤمن هؤلاء بأن المصائب مثل الفرح: أمر مقدَّر على الخلق قبل ولادتهم، ويعيشون دائماً معركة استثمار للمشقّة والحزن في «سوق الله». ولذا، فهم يتجاوزون كلّ ضجر، ويخفون كلّ ألم.
ما تقدَّم، ليس سوى تأصيل لفهم المشهد الاجتماعي في القطاع، لأن سكان غزة تحوّلوا أخيراً إلى مادة لتعميم وجهة نظر واحدة على الجميع. تلتقط كاميرا واحدة من القنوات الصفراء، مواطناً ناقماً يسبّ المقاومة ويعيد أصل البلاء إلى الضحية لا الجلاد، ثم تدفع آلاف الدولارات لتعميم رأيه وكأنه يعبّر عن الجميع. وأكثر من ذلك، تقوم قوات الاحتلال، في أقبح مستويات الإجرام والنازية، باعتقال المئات من المواطنين وتجريدهم من ملابسهم، ثم سؤالهم ورؤوسهم في مقابل فوهات البنادق، عن رأيهم في حركة «حماس» ويحيى السنوار. ما الذي يمكن أن يقوله أحد في مثل هذا الموقف العصيب؟
يوم أمس، نشر إعلام العدو مقطعاً مصوّراً يَظهر فيه المئات من الشبان الذين اعتقلهم في مشروع بيت لاهيا قبل نحو أسبوعين من الآن. الإنجاز الكبير في المقطع، أن الشباب المجرّدين من ملابسهم، والمحاطين بعشرات البنادق، يسبّون المقاومة والسنوار، ويتهمونهما بأنهما أساس نكبتهم. لقد قدّرت المشيئة أن نلتقي بأحدهم، الذي أكد، لـ«الأخبار»، أن الجنود هدّدوهم بإطلاق الرصاص على أجسادهم، وأنّ دافع هذا التجاوب هو الخوف وغريزة البقاء. يقول الرجل: «بدا جنود العدو غاضبين حاقدين وشرسين جداً، أحسسنا أنه يكفي أن يستفزّهم واحد منّا، لكي يطلقوا الرصاص على الجميع».