يتمّ الهمس ويتسرّب الكلام الموجز عن مسألة الردع النووي الصهيوني ودورها في المواجهة مع محور المقاومة، ونظراً إلى الغموض الذي أحاط به الكيان مشروعه النووي، سواءٌ لناحية القدرات أو استراتيجية الاستخدام، فإنّ النقاش في هذه المسألة ظلّ غير متعمّق. فهل ثمّة ردع نووي صهيوني فاعل؟ وما هو وزنه وتأثيره في الصراع؟ وما هو دوره المستقبلي في الصراعات المرشحة للتوسع والتفاقم في المرحلة القادمة؟
النووي في غزة
ثمّة تجربة ماثلة أمامنا اليوم مشابهة لاستخدام سلاح الدمار الشامل، لكن بدون الانشطار النووي، حيث استُهدف قطاع غزة بعشرين ألف طن من المتفجرات، ما يساوي قنبلتَي هيروشيما وناكازاكي، وقد صدرت أصوات صهيونية في بداية الحرب تدعو إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، ولا تزال هناك مطالبات ومراجعات تعتبر أن عدم التدمير الشامل لقطاع غزة في الأيام الأولى كان خطأً قاتلاً.
الفارق بين الدمار الشامل الحاصل في غزة، واستخدام سلاح الانشطار النووي، هو في الأثر القاتل للأرواح البشرية، فالقنبلة النووية لا تدمّر فقط، بل تقضي على إمكانية الحياة في نطاق واسع. فالقنبلة قتلت مئتَي ألف ياباني خلال دقائق، وهنا يتجلّى الفارق الآخر، هو في السرعة، فالقنبلة النووية تحتاج إلى دقائق للانفجار، وما أُلقي لمدة شهرين متتاليين من القذائف، يسقط في لحظة واحدة، ما يعقّد إمكانية استيعاب الصدمة على الطرف المستهدف، أو التعامل مع الخسائر. وبناءً على هذه الخصوصية، يهدف إسقاط القنبلة إلى تكبيد الطرف الآخر خسائر وصدمة وترويعاً، بحيث لا يمكنه استرجاع المبادرة ولا الاستمرار في الموقف نفسه الذي كان يعتمده في خلال الحرب، إلا إذا كان يمتلك رؤية وإمكانية للرد بالضربة النووية الثانية.

الاستراتيجية النووية الصهيونية
ليس هناك استراتيجية صهيونية معلنة بهذا الصدد، كما ليس هناك إقرار رسمي بوجود السلاح النووي، فضلاً عن حجم القنابل أو كمية المادة الانشطارية القابلة للتحول إلى سلاح، لكن ثمة أدبيات سياسية وأمنيّة تداولت بهذا الشأن، ومن بينها كتاب للباحث الصهيوني يائير إيفرون، يحدّد مجموعة احتمالات لاستخدام القنبلة:
1) وضعية اليأس: هزيمة القوات العسكرية، تدمير سلاح الجو.
2) التوازن العسكري الكلاسيكي: في حال انقلاب التوازن لغير مصلحة الكيان، وامتناع الولايات المتحدة عن ضمان أمنه وبقائه، فإنّ الحاجز أمام استخدام القنبلة سيكون قد سقط.
3) التهديد بالإبادة الجماعية: في حال وجود جهد عسكري منسّق لتدمير إسرائيل، سينظر إليه على أنه إبادة جماعية.

تحييد المدنيين
لم تستخدم القنبلة النووية في التدمير إلا لمرة واحدة ضد اليابان، فيما استخدمت للردع، ولمنع الحرب والاعتداء، فثمّة موانع سياسية واستراتيجية تعيق استخدام هذا السلاح، واللحظة التي اغتنمتها الولايات المتحدة لتجربتها في اليابان، كانت لحظة فراغ دولي في نهاية الحرب؛ كل القوى منهكة، والنظام الدولي الجديد لم ينشأ بعد.
حصل جدال داخل الإدارة الأميركية لعدة مرات حول استخدام السلاح النووي خلال الحرب الباردة: أزمة مضيق تايوان، أزمة الصواريخ الكوبية، حرب فييتنام، الحرب الكورية. لكن المستوى السياسي كان دوماً يمانع توظيف هذه التكنولوجيا القاتلة في الصراع، وكان العائق الرئيسي هو الردع النووي السوفياتي. خيضت معارك وصراعات الحرب الباردة كلها تحت المستوى النووي، رغم أنها كانت حروباً حاسمة ومفصليّة بالنسبة إلى المتقاتلين في الميدان.
تأسيس معركة تفكيك نظام الفصل العنصري الذي يقوم عليه الكيان المؤقت على فرضية الحرب التدميرية الشاملة للعسكريين والمستوطنين منذ اللحظة الأولى لبدء المواجهة قد لا يكون، من ناحية سياسية واجتماعية، هو الخيار الأمثل. فالتدمير الشامل من بداية الحرب يضعف مشروعيّة المواجهة، إلا إذا كانت ردّاً على عدوان يشمل المدنيين، كما أن استهداف المستوطنين يحوّل الحرب منذ اللحظة الأولى إلى بيئة تصنع الدوافع لدى العسكريين والاحتياط للمشاركة في حرب وجود. أمّا استهداف البنية العسكرية حصراً، فيضع الصراع ضمن حدود وسياق تدرّجي يمنع تحشيد القدرات الشاملة للكيان المؤقت. يمكن لتحييد المستوطنين أن يكون معلناً بشكل رسمي، بحيث يتحوّل إلى مطلب للمستوطنين أنفسهم تجاه الجيش والقيادة الصهيونية، ورادعاً لها من استهداف المدنيين في الطرف الآخر.
يرى مراقبون أن البيئة الصهيونية، قادةً ومستوطنين، دخلت في حالة من التوتر والغضب الناتج من صفعة «طوفان الأقصى»، ومن المرجّح أن ينعكس هذا الانقلاب النفسي حالة من الحساسية والقلق المفرط في مرحلة ما بعد الحرب. بموازاة ذلك، تظهر الجبهة اللبنانية مدى انضباط وارتداع الاحتلال عن التصعيد في حال وجود قدرة تدميرية وازنة لدى الطرف الآخر، وفي حالة التورّط في حرب متعدّدة الجبهات تثقل كاهل الجيش وتشتت قدراته.
نستفيد من التجربة الجارية حالياً ضرورة العمل المشترك لمحور المقاومة وزيادة مستويات التنسيق السياسي والعسكري والجهوزية المتزامنة والمشتركة لأضلاعه كافة في أيّ مواجهة مستقبلية، بحيث يمكن قياس القدرة التدميرية للسلاح النووي الصهيوني بالمقارنة مع القدرة التدميرية الصاروخية لكامل محور المقاومة، بأثرها الوجودي على الكيان. كما نستفيد ضرورة ترسيخ إيمان الشعوب الداعمة للمقاومة وفصائلها بأنها تدافع عن وجودها الذاتي كما تشارك في المعركة الكلية المشتركة على أرض فلسطين. أمّا بالنسبة إلى تحييد المستوطنين مقابل المدنيين، في حال قامت المقاومة بمبادرة استراتيجية لاستهداف الكيان، فشرط نجاحه إظهار الاستعداد الكامل لاستهداف المستوطنين، حتى لا تتعرّض المقاومة للابتزاز باستهداف مدنييها.

الآثار الهدامة على الكيان
يؤثّر استخدام القنبلة النووية الإسرائيلية، في فرض التكلفة الهائلة لدى الطرف الآخر - مع الالتفات إلى أنه لا يمكن استخدامها تجاه الدول المحاذية إلا بأحجام تكتيكية. لكن حتى استخدام القنبلة الاستراتيجية لن يمسّ بالوجود التاريخي والجغرافي والهوياتي للدولة التي يمكن أن يستهدفها، كما سيفعل القيام باستهداف الوجود الاستيطاني في فلسطين عبر حرب صاروخية شاملة ومدمرة، يعقبها تدخل عسكري بري لأكثر من مليون مقاتل.
من منظار دولي، سيُحدث استخدام القنبلة النووية، للمرة الثانية في التاريخ، صدمةً لنظام الأمن الدولي، سيدفع الجميع في المنطقة إلى التسلّح النووي، وقد يدفع قوى نووية شرقية إلى التدخّل لبناء نظام ردع وتوازن نووي في المنطقة. ومن منظار الرأي العام العالمي، سيؤدّي نشر مشاهد تأثير القنبلة النووية إلى عزل شامل للصهاينة والكيان الصهيوني حول العالم، وبدء الحملة العالمية الشاملة، المدنية وغير المدنية، للقضاء على اللوبيات الصهيونية في العالم.
مقابل هذا الاضطراب والتكلفة العالية، سيكون الكيان في معرض الزوال، نتيجة إمكانية قصف ديمونا بالصواريخ وتلويث المنطقة الاستيطانية بأكملها وجعلها غير صالحة للسكن، أو في الحد الأدنى قصف بنى الأمونيا وباقي المنشآت الكيميائية، التي ستؤدي إلى مجازر هائلة، وكضربة كلاسيكية ثانية، سيتم قذف كل المخزون الصاروخي لمحور المقاومة دفعة واحدة على نقاط الثقل العسكرية والاقتصادية والكيميائية في الكيان. فيما ستقوم الدولة التي استُهدفت بالقنبلة النووية بنفض غبار الكلفة، والبدء بإعادة بناء كينونتها الجيوبوليتيكية والاقتصادية، كما فعلت اليابان بعد الحرب.

الخيار الأخير
احتمال امتلاك إحدى قوى محور المقاومة، المتنوع فكرياً ومذهبياً وفقهياً، لسلاح نووي في اللحظة الأخيرة، أو تحصيله للرد على القنبلة الصهيونية، من دول مثل: باكستان، كوريا الشمالية، روسيا، وحتى الصين، ومنعاً لتلوث فلسطين بأكلمها، يمكن اللجوء إلى الأسلحة النووية التكتيكية، مع الالتفات إلى أن التهجير الذي ينوي الكيان الاستمرار به كبرنامج للضفة وغزة وحتى سكان 48، سيزيد من احتمالات اللجوء إلى التدمير الشامل، سواءٌ عبر تحصيل قنابل نووية تكتيكية، أو من خلال استهداف ديمونا والأمونيا.
هذا ما يجعل امتلاك القنبلة غير كافٍ، بل لا بد، عند استخدامها، من التحكّم بالقنابل الموجودة في أماكن معادية أو وسطية، والقابلة للبيع والاستخدام لأسباب سياسية أو استراتيجية، ومن الأسباب التي قد تدفع دولاً مختلفة لتوفير القدرة النووية المسلحة لمحور المقاومة: استرجاع التوازن الدولي والإقليمي، ومنع «الناتو» منفرداً من استخدام القنبلة للمرة الثانية للترويع ومن دون رد. ويساهم في مشروعية هذا الرد، التغيّر الهائل في الرأي العام العالمي والغربي تجاه الفكرة الصهيونية، وظهور أصوات تدعو إلى تفكيكها من داخل البنية الغربية التي أنشأت الكيان.
أمام هذا المسرح المهول، يبرز البديل السياسي: خوض حرب عسكرية نظيفة، واللجوء إلى خيار الاستفتاء العام للفلسطينيين في فلسطين والشتات، بمن فيهم اليهود الذين كانوا من سكّان فلسطين قبل الهجرة المنظمة في بداية القرن التاسع عشر. الاستفتاء الذي يمكن أن يقرّر شكل النظام السياسي القادم لفلسطين، بدلاً من التهجير القسري والقتل الجماعي الذي يمكن أن يتعرّض له المستوطنون رداً على استخدام كيانهم المؤقت سلاح الانشطار النووي.

* مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير