تحذير ونصيحة! ليست هذه المقالة لضِعاف القلوب أو واضعي العقل على الرفّ قبل دخول المعبد. أساساً هي موجّهة إلى أربع فئات من الصهاينة المتكاثرين اليوم بين المسيحيين والمسلمين واليهود والعلمانيين، والحبل على الجرار. أيضاً تمدّ هذه المقالة غصن الزيتون ويد السلام والمحبة إلى كل نابذ للصهيونية، وإلى كل من يدعو إلى دولة واحدة عادلة في فلسطين بالتساوي لجميع سكانها. فطبيعة الإنسان غفورة والحياة رحيمة مهما كان التاريخ والحاضر ظالمَين. تفرّق المقالة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وبين اليهودي والإسرائيلي، وبين الإيمان وهيكل الدين، كما تناصر الوجود اليهودي على أرض فلسطين فقط إذا كان مسالماً وقانونياً ومتصالحاً مع أصحاب الأرض الحقيقيين من فلسطينيّي الداخل والخارج، في إطار قومي لا استعمار استيطاني. مقالتنا تسلّط الضوء على حرفية النصوص الواردة في الكتب «السماوية» وكيفية تأبّط الصهيوني تلك الحرفية لتبرير فظاعة أفعاله على أرض الواقع في الماضي والحاضر، علماً أن المقالة تتعاطى مع الوقائع التاريخية والدينية كما الحاضرة أمامنا من منظار عملاني محض وغير أكاديمي. نختم التحذير بالنصيحة لكل من يشعر بشبه تهجم على معتقداته: خُذْ نفَساً. كلما أحسست بضرورة الخوذة العسكرية غيرةً على الدين، ضعها جانباً. لا نهدف إلى الانتقاص من الأخلاق والقِيم الحميدة والإيمان أو رفع ميزان الحرارة، بل إلى إنتاج نور وتسليطه على الظروف السياسية المتقاطعة مع الديناميكيات الدينية في التاريخ والحاضر. الإيمان فردي، وهيكل الدين سياسة.
في وسط النافذة الأمامية من كل بيت كنعاني دون استثناء، المحتمل أنه كان هناك لافتة تقول: «هنا كنعان، ممنوع الوقوف بتاتاً»، مذيّلة بـِ«الرجاء متابعة السير بعد عبور نهر الأردن إلى أرضٍ ما أخرى، ربما أوغندا أو الأرجنتين، أو العودة رأساً إلى خيَمكم في ضواحي كردستان» (اسألوا ثيودور هرتزل عن تفضيله للأرجنتين). لكنّ الكنعانيين، وهم أهل البيت وأصحاب الأرض، مجرد تفصيل مزعج في حسابات سمسار الأراضي السماوي. هم لا يستحقون الأخذ برأيهم في موضوع ما يُسمّى «أرض الميعاد» التي وَعَد العبرانيون أنفسهم بها. طبعاً لا تذكر أيٌّ من كُتُب السماء موقف الكنعانيين هنا على كوكب الأرض. ربما كانوا خُرساً وطُرشاً ودوابَّ لا تفكّر، أو هكذا أراد العقل العبراني الأناني والحبكة التوراتية السياسية تصويرهم، وبعدهما القسطنطيني إلى الصهيوني ثم الغربي والإسرائيلي وبعض العرب. كل منجزات الإنسان الكنعاني لا تشفع له في نظر أولئك: تفعيل خيرات الأرض من قمح وزيتون وعنب، تحديث أساليب الزراعة، استبدال الخيمة بهندسة أربعة حيطان وسقف وقنطرة، تطوير الأبجدية والكتابة، تنجيد فنّ الكلام واللغة، ابتكار تقنيات السفن، قراءة النجوم للملاحة البحرية (بدل الشعوذة الفلكية)، حسن الجوار فلا هيمنة ولا سيطرة ولا عدوان من طرفهم، عولمة وتواصل وتبادل تجاري مع الشعوب، بناء مدن حول المتوسط واستكشاف الآفاق إلى ما وراء الأطلسي والقارة الأفريقية والخليج الفارسي.

وحده نبوخذ نصّر، ملك عراق ما بين النهرين وقائد العبور العكسي، هو الذي فرض العودة الجبرية على قسم من القبائل العبرانية إلى مناطق قريبة من أصلهم. طبعاً، لم يكن نبوخذ نصّر مأخوذاً بدوافع ملائكية، بل إجمالاً أجبر الأغنياء على الهجرة إلى بلاد بابل، آخذاً بمَثَل دونالد ترامب الذي رفض هجرة المعَتّرين إلى أميركا من «بلدان الششما» كما سمّاها (لِمَ يرسلون إلينا الأسوأ بينهم؟). تم ذلك قبل ظهور سايروس، مؤسس إيران الفارسية، الذي كان تاريخياً أول من أدّى الدور الذي يقوم به الصهيومسيحيون في أوروبا وأميركا منذ القرن التاسع عشر (وصهيومسيحيو/ مسلمو العرب اليوم). بحسب روايات العهد القديم، ساعد سايروس العبرانيين على احتلال أرض كنعان مرةً ثانية. ربما حاكت معتقداته الزرادشتية مفهوم التوحيد العبراني، مُوَرِّث الديانات السماوية الثلاث.

بغضّ النظر عن قوة الإيمان وبراءته عند الفرد الباحث عن محبة الله في داخل وجدانه، تعتمد قراءتنا العصرية للظروف السياسية في التاريخ، المتقاطعة مع الديناميكيات الدينية، على ما نقلته الألسنة والسرديات الشفهية في أزمانٍ غابرة لم تتوفر فيها مكتبات أو مراكز توثيق ومطابع، ولا حتى آداب مهنية ومعايير واضحة. أزمانٌ كان العقل العِلمي فيها لا يتَحَمّل أكثر من أن الغيوم والأمطار سحر ساحر، والمرض غضب إلهي والأرض مستوية، مسطّحة، تنتهي عند الأفق. معظمها مفاهيم مبنية على حوادث دُوّنَت على ورق بعد مئات السنين وعشرات القرون من وقوع الحادثة مهما كانت، هذا إذا فعلاً حدثت ولم تكن من نسيج خيال كاتبها، على الأرجح بالناقص والزائد كلمات وجُمل وفقرات وصفحات وفصول أو معانٍ بأكملها، مع الكثير من الملح والبهار والتناقضات الصارخة والتعديلات، حسب أحوال الطقس السياسي وما تطلبه الظروف العسكرية والعدوانية ونيّات الحكام والقبيلة المجاورة. تلك شروط ومعالجات وتلاعبات لا تختلف كثيراً عن سيطرة الإعلام الحديث من محطات تلفزيونية وجرائد ومواقع إنترنت وتواصل اجتماعي، غير أنّ بإمكان أي شخص في عصرنا التحري بنفسه عن صحة المنشور إذا كان على هِمّة ولا يقتصد في التفكير. من الممكن دحض خلال دقائق ما لا يقبله العقل ولا تثبته الأدلة ولا يستقيم بالمنطق ولا يباركه العِلم.

إلى جانب المحبة والإيمان الفردي وصفاء القلب، تتجلّى أيضاً الكراهية والضغينة السياسية في الأحوال والهيكلة الدينية في العصور الغابرة. نَجِد مثلاً محاولات فجّة لإلباس يسوع المسيح العباءة اليهودية غصباً، لتقديم أوراق الاعتماد السياسية أمام فعاليات القبائل العبرانية التي صلبته بعدما غسل الحاكم الروماني بيلاطس البنطي يديه من دمه، وتحويله إلى رسول يهودي لليهود حصرياً. فلا يتردّد إنجيل متّى (15 – 21:28) من كتابة واحدة من أكثر القصص المشينة بحق المسيح والكنعانيين، حيث يرفض يسوع مساعدة امرأة يائسة من منطقة صور وصيدا فقط لأنها كنعانية: «لَمْ اُرْسَل إلا إلى خِرَاف بَيْت إسرائيل الضَّالَّة»، ثم يهين المرأة أن «لَيْسَ حسناً أن يُؤخَذ خُبْز البنين ويُطْرَح لِلكلاب».

أمّا العهد القديم فحدّث ولا حرج. ما زال يفاجئني بصراحته كلّما تصفّحته وكأنني أقرأه للمرة الأولى. هذا العهد، قديم جديد؟ يعني كم بالضبط؟ أسبوعان ونيّف، من عمر إيتمار بن غفير الفاشي، خليفة الإرهابي الأميركي مائير كاهانا؟ سنتان تقريباً، من عمر «اتفاقيات إبراهيم» المُطَبِّعة؟ سبعون سنة، من عمر إسرائيل الغاصبة؟ ألف وخمسمئة سنة من عمر الآية القرآنية «واتَّخَذ اللَّهُ إبراهيم خَليلاً» (النساء 125)؟ ألفا سنة في العصر الغابر، من عمر إبراهيم الذي نفّذ أوامر صريحة (سفر التكوين 12) لا ريب في وضوح جرمها: «اذهَبْ مِن أرضك ومِن عشيرتك ومن بيت أبيك» (في حران، من مناطق كردستان الحالية) إلى أرض غيرك حيث «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض». بعد كل ذلك التأكيد أن كنعان مسكونة من أهلها وأن أصل النبي العتيد من كوكب آخر (في مقاسات ذلك الزمن الخالي من أي مواصلات سريعة)، تأتيه الهدية «لِنَسْلِكَ أعْطي هذه الأرض». ألا يوجد شيء مريب أخلاقياً وروحانياً في هذا المشهد؟

فشلَ إبراهيم في سرقة الأرض، فأكمل طريقه إلى مصر حيث أمر زوجته سارة «قُولي إنكِ أخْتي، لِيَكون لي خير بسببك وتَحْيا نفْسي من أجلِكِ». وافق على تسويق زوجته إلى مخدع فرعون الذي «صَنع إلى إبراهيم خيراً بسببها، وصار لهُ غنم وبقر وحمير وعبيد وإمَاءٌ وأتُنٌ وجِمَال». بعده بعشرات القرون تزداد درجات الصراحة في سفر التثنية 6: 10-13، الذي يؤكد أن المدن والبيوت والآبار والكروم بناها الكنعانيون ولا تعود ملكيتها إلى العبرانيين. لكن صك الملكية ببساطة يندثر بمسحة ذقن وقَسَم يمين واحد، «ومتى أتى بِكَ الرَّب إلهُكَ إلى الأرض الَتي حَلَفَ لآبائِكَ... أَنْ يُعْطيك، إلى مُدُن عظيمة جيدة لَمْ تَبْنِهَا، وبيوت مملوءة كُلَّ خَيْر لَمْ تَمْلأْها، وآبارٍ محفورة لَمْ تَحْفِرْها، وكروم وزيتون لَمْ تَغْرِسْهَا». الكنعاني يبني البيت ويملأه خيراً ويحفر البئر ويغرس الزيتون، والعبراني يأخذها كلها على بارد المستريح. نعم، العدل أساس الملك وحصن الأمن في الدنيا والآخرة.

استولوا عليها كما يؤكد سفر يشوع 1 (جاشْوَا) بعد موت موسى، «مِن البَرِّية ولُبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميعِ أَرض الحثّيين، وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس». بعد عبور نهر الأردن وقبل دخول مدينة أريحا أعطى يشوع الأوامر إلى مسلّحيه بالحفاظ على شيئين فقط لا غير: المومس والذهب، «رَاحَاب الزَّانِيَة فقط تَحْيا هي وكُل مَن معها في البيت» (لأنها خبّأت رجاله الجواسيس الذين تسلّلوا إلى أريحا، وربما اعتقاداً منه أنها من سليلة محمود عباس)، «وكُل الفِضَّة والذَّهب وآنِيَة النُّحَاس والحديد» (يبدو أن الميعاد لا يكتمل بدون قدسية المال). ثم أغاروا «وحَرَّموا كُلّ ما في المدينة مِن رَجُل وامْرأَة، مِن طفل وشيخٍ، حتى البقر والغنم والحمير بِحَدِّ السيف»، وما لبثوا أن «أَحرَقوا المدينة بالنار مع كُلّ ما بِهَا» ما عدا الغنيمتين الدسمتين.

أمّا سفر العدد (33: 55-56) فيُهدّد العبرانيين بضرورة إبادة الكنعانيين الجماعية والتطهير العرقي، «وإنْ لَمْ تطردوا سكان الأرض من أمامِكُم يكون الذين تستبقون مِنهُم أشواكاً في أعيُنِكم، ومناخِس في جوانبكم، ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها»، وإلا إذا لم يفعلوا «فيكون أَنِّي أَفْعَلُ بِكُم كما هَمَمْتُ أَن أَفعلَ بِهِم». تحية طيبة إلى «عرين الأسود» والشعب الفلسطيني وغزة الحرة الصامدة والمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، وهم أكثر بكثير من أشواك في عيون صهاينة اليوم أو مناخس في جوانبهم.

لا شك أن مؤسسي إسرائيل في بداية القرن الماضي اتخذوا العهد القديم كـ«دليل المُسْتخدِم» في إلهام وتخطيط وإدارة الاستراتيجيات العسكرية لاغتصاب فلسطين وإشعال كذبة المنارة «الديموقراطية الوحيدة في المنطقة» بوقود الدم الفلسطيني ثم اللبناني. تأبطوا كتاب الإرشاد هذا بالأيمن وكل ما وفّرَه الإنكليز من أسلحة بالأيسر، وكتاب المؤرخ الرائع والصديق إيلان پاپي (أستاذ إسرائيلي في جامعة اكزتر في إنكلترا) «التطهير العرقي لفلسطين» خير دليل (اُعيد طبعه 14 مرة، آخرها سنة 2021). ما الفرق بين كل التجسس والمناورة ثم القتل والذبح والدم المُوَثق في العهد القديم من جهة، وصورايخ الـ أف-16 والأباتشي ودبابات الميركافا من جهة أخرى؟ ما الفرق بين كتاب سماوي يتعهد الإبادة وطائرة دْروْنْ مُسيّرة تقصف المستشفيات من السماء؟ التقنية تختلف، لكن «العهد» القديم مع جرم المتعهد الأميركي والأوروبي هو ذاته. تفضلون الصهيوني الأول إبراهيم بن بايدن الخائف من خسارة كرسي البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، فيتوّج نفسه ملك إسرائيل الجديد من ذرية إبراهيم مباشرة من تل أبيب.

من روائع القرآن المُنصِفة عن «العهد» مع إبراهيم وذرِّيته، آية «إنِّي جَاعِلُكَ لِلناسِ إِماماً، قَالَ وَمِن ذُرِّيتي، قَالَ لا يَنَالُ عَهْدي الظَّالمينَ» (البقرة 124) أي لا يمكن توريث العهد. لكن أتى ذلك على بعضٍ من التأخير بعد إبرام العهد مع «إبراهيم خليل الله» وتصنيف بني إسرائيل كشعب مختار مُفضّل على الناس أجمعين: «اذكُروا نعمتي التي أَنْعَمْتُ عليكم وأَنّي فَضّلتُكُم على العالمِين» (البقرة 47)، كما ذكر قول موسى لِقَومه في سورة المائدة 20 «يا قَوْم اذكُروا نِعْمَة اللّه عليكُم إِذْ جعل فيكم أَنبياء وجعلكُم ملوكاً وآتاكُم ما لَمْ يُؤْتِ أحداً من العالَمِين» فعاثوا ظلماً بأرض كنعان، إلى أن وصَلَنا منهم ورثة العهد القديم على أشكال دايفيد بن غوريون ومناحيم بيغن وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو. آمين.

إنه خط طويل من الحسب والنسب والذهنية المَرَضية، مجموعها قائم على سلوك مُوَجّه لإيذاء الآخرين عمداً. تاريخ العدوان في العصور الغابرة يعيد نفسه أمام أعيننا اليوم، ويتابع عنفه تحت تأثير عقاقير المعتقدات المتعصبة. فَيُنَصّب المريض/ المجرم نفسه كحَالة استثنائية مختارة من السماء فوق البشرية، يتأرجح بين استثناءات تكثر في كل الأديان، كـ«شعب الله المختار» و«كنتم خير أمة اُخرِجت للناس»، بمساعدة صهاينة الغرب (وأخيراً العرب) الاقتصادية والعسكرية والسياسية والديبلوماسية.

يا ترى، أية حالة هلع وجودي عانى منه أطفال كنعان ونساؤها ورجالها وشيوخها؟ هل من كتابٍ سماوي يذكرهم؟ الذعر نفسه يتجسد في عيون أطفال غزة اليوم، وكَفَر كل من يحضن طفله ويغمض عينيه محبة دون ذرف دمعة على ما يعانيه أطفال الإنسانية في فلسطين. أمام استخفاف السماء العبرانية بحقوق الكنعانيين والتقليل من إنسانيتهم كأنهم حيوانات أو أشياء ممكن التخلص منها، ماذا نتوقع من بني آدم وصهاينة الداخل والخارج؟ حتى الشاعر الإغريقي هومر، المؤلِّف المُفترَض لملحمتَي الإلياذة والأوديسة، يقدم صورة شريرة عن البحّار الكنعاني عامةً، مصنفاً إياه بالجشِع والكاذب والمخادع. وهو بذلك لا يحيد عن التحيز الإغريقي ضد الكنعانيين في تشويه سمعتهم ازدراءً، بالرغم مما أخذ ونسخ الإغريق عنهم في الكثير من المجالات الفكرية والحياتية. امتدت التحيّزات الفكرية إلى ما بعد عصر النهضة الأوروبية حتى اليوم لتشمل كل ثقافات منطقتنا العربية، بالإضافة إلى الإرث الكنعاني القديم.

يبدو لي أن الانفتاح والفضول الفكري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اكتسبا عند الأوروبيين والأميركيين نظرتين أصوليتين، واحدة علمانية وأخرى دينية، كلتاهما سلبية عن الكنعانيين. أبني هذا الاستنتاج على مراجعتي لأبحاث سايروس غوردن (عالم آثار أميركي عانى من معاداة السامية في الجامعات الأميركية في الثلاثينيات) الذي قام بتحليل «مفهوم اصطناعي» تبنّاه مثقفو عصره: «إن العبراني عبقري في الدين والأخلاق، فيما اليوناني عبقري في الفلسفة والعلوم. الأول روحاني وشرقي، والآخر عقلاني وأوروبي». أين الكنعاني وإرثه الضخم لكامل شعوب البحر الأبيض المتوسط في تلك المعادلة؟ المثقفون الكلاسيكيون في جامعتَيْ هارفارد وييل مثلاً لم ولا ولن يرحّبا بأيّ دليل على التأثير الكنعاني الحضاري العميق على الإغريق، بالرغم من كل الاكتشافات للآثار الكنعانية وفكّ شيفرة ألواح المخطوطات والنقوش المكتشفة في مصر (مراسيم حجر روزيتا وغيره) وفي سوريا الكبرى (أُوغاريت وراس شمرا وحمورابي، الخ)، فيما الباحث في العبرانية راضٍ تماماً عن عبقرية العبراني وأحقيّة الصهيونية. التزَموا (وما زالوا) بِقاعدة التحامل القائمة على تَفَرّد اليوناني والروماني كمثل أعلى، مع القبول على مضض الإلهام الإلهي للعهد القديم ما داموا أنهم يعتبرون أنفسهم «مسيحيين». الأصولي العلماني يعارض منح الفضل إلى الحضارات «البربرية» مثل المصريين أو الكنعانيين، والأصولي الديني يعارض الروابط بين «الشعب المختار» وجيرانهم «الوثنيين»، إن لم نقل أنه يعارض أسبقية ديانات بعل ومصر وعملية النسخ الممنهج لمفاهيمها وطقوسها وعاداتها وأساطيرها.

التيار السائد في فكر العربي المتصهين قائم على السآمة من القضية الفلسطينية ونسيانها، أو عقدة الدونية أمام الغرب «الديموقراطي» المشغف بـ«تفِنكِة» حرية التعبير طبعاً، ما عدا التعبير عن دعمنا للحق الفلسطيني واللبناني، ومهما اتّهمنا «حماس» بارتكاب جريمة ضد الإنسانية أخيراً أسوة بلوائح الجرائم الإسرائيلية الموثقة ضد المدنيين. فليتوقف الفلسطيني عن تعكير سماء العرب وإسرائيل! يحذو بعض رجال الدين المسلمون على وقع سياسة الحكام وعلى خطى صهيومسيحيي الغرب في تسويغ الجرائم ضد الفلسطينيين اليوم، وما حصل للكنعانيين من قبلهم، على أنها مشيئة الله، أو أن سرّه معه يعمل بطرق غامضة لا يفهمها البشر، أو مشيئة البترودولار إن حكى. عظات العيد في بعض الكنائس الأميركية (كما مواعظ أعضاء الكونغرس على صدى الانتخابات وكفالة اللوبي الإسرائيلي)، وأكثرها رجعي غير تقدمي، تدعو الرعية إلى أن يتذكّروا ويرسلوا أطيب التمنيات إلى «إخواننا في أوكرانيا» في ذكرى الميلاد أو شفقة على «إخواننا في إسرائيل». وإذا طُرِحَ السؤال مباغتةً «ماذا بالنسبة إلى إخواننا الفلسطينيين يا أبونا، ألا يستحقون عطفكم؟»، تكون الإجابة بهزّة رأس إيجابية ولكن مرتبكة. ربما يخاف تهمة معاداة السامية الجاهزة تصله في البريد السريع. ربما يعلم في سرّه أن إسرائيل ليست على حق، وكل الحقّ على إبراهيم العبراني، لكنّي أشكّ أنه يعلم.

* ناشر لبناني ومحرّر سابق لمجلات أدبية وفنية