لا يزال أدونيس يرى العبور إلى فردوسه بالكلام عن تخلّف الإسلام والمسلمين بفكرهم. لا بأس، لو أنّه يخرج إليهم مهتاجاً وهو يردد كلاماً عن فكر ديني يهودي حديث وفكر ديني مسيحي حديث، سوف يجد حدائق وبساتين في الفكر الديني الحديث، لأنه لا يزال يكدح في ظلمته. يكدح في كنفه طوال الوقت، منكبّاً على فكر معقّد لا ينتج شيئاً، سوى الاغتراس في أرض حداثة الفكرَين الدينيَّين في اليهودية والمسيحية. لعلّ البطل يريد أن يفتّت وردة لحساب ورد الآخرين. لا أثر بليغاً لما يقوله لولا أنه يجيء به حين يرمي الفكر اليهودي الديني الحديث بآلاف أطنان المتفجّرات على قطاع غزة، على أولاده وعجائز القطاع والنساء المردّدات الآيات البينات، ما لا يملكن غيرها وهن ينفين ذعرهن من جعير الطائرات الإسرائيلية، وهي «تضفي الحلم» على منازل وعمارات ومستشفيات الغزّيين ومؤسساتهم.
(رومان مورادوف ــ أرمينيا)

إنه يمزج مزجاً بديعاً بين التجريف والتخريف، ما دام الفكر الديني اليهودي، لا يزال فكراً يقظاً على مؤلفه الديني الأول. لعلّه الأكثر حداثة عند أدونيس، في منشوراته الدائرة على ضرورة إبادة النساء والأطفال والرجال والحيوانات والنبات. فكر لا يزال عند الأسفار الخمسة العتيقة، وعهد الله لإبراهيم وذريّته، والخروج من مصر والتجلّي على جبل سيناء، حيث أنزل الله الوصايا العشر، وتجوال بني إسرائيل في الصحراء وصولاً إلى دخولهم إلى الأراضي المقدّسة. فكرٌ دينيٌّ يهودي حديث كحداثة التاكسيات في شوارع تل أبيب. حين يرى أدونيس العالم مقسوماً على ثلاثة أجزاء، يضع الفكر الإسلامي في التبطل. حين يدرك أن الفكر الديني اليهودي حديث، حين يرى العالم أن هذا الفكر، إذا وقعت تسميته بالفكر، هو نوع من الخلط بين الأسطرة والجنون. فكر أزعر يتماهى معه المتلاشون، من لا يرون سبلاً للعودة إلا في التصاوير المتطرفة تطرّف الفكر اليهودي وتطرف كرّاساته ومؤلفاته، حيث لا شيء سوى ضباب العنف والموت والسحق والإبادة. لا إقناع سوى في الأسوة بين ما هو كامن في القَصص التوراتي وفي قَصص أدونيس، الرجل الحداثي في مجتمع لا يزال يقف على فكر ديني متخلّف. لعلّ الفكر اليهودي الحديث يزداد فخراً كلّما تذكر حشمونائيم المستوطنة المجتمعية الإسرائيلية غرب محافظة رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية. مستوطنة نموذج. يخصّ ذلك الشيء نفسه بأسوأ أنواع السكّان المتديّنين ممّن تسنى لهم الهرب من الخضوع إلى المحاكمة أو السجن في بلدانهم، حتى إذا هجروها إلى يشرائيل وجدوا فيها منازل جاهزة، أرضاً للزراعة، سلاحاً لتهجير أهل الدار. لنذكر أنّ المستوطنة هي مرحلة ما قبل المدينة. فخر الدولة الحديثة. شيء كافكوي للمدينة، حيث لن يمضي المستوطن ذو الفكر اليهودي الحديث أزمانه في الذعر من نتائج ما فاح من روائحه الكريهة في أميركا وأوروبا. فكر حديث يقوم على شَي الناس وقتلهم بأشنع الطرق وباهتزازات المتديّنين أمام حائط البراق، كما لو أنهم هزات ارتدادية لهزة من هزات العالم الكبرى، أو في تقيّد المتدينين بالقديم الفكري (الحديث) حين يحمل المتديّن جدائله في جولاته في الأراضي المسروقة من أصحابها عبر تفاصيل الحداثة الدينية اليهودية غير الملموسة إلّا لدى اليهود. جزء من اليهود لا جميعهم.
لا يرى أدونيس سوى الواقع وهو يميل إلى الأخطاء الزائفة. هكذا، تضحي اليهودية بوّابة المطهر لكل الشعوب والديانات الأخرى. كلامه كلام يختطفه بسرعة من دون توقف أمام المفارقات والتفارقات. كلام سرعة لا يمرّ على الفروق بين هذا المفهوم وذاك بحذر، ما يقيم الخلط بين مفهومين. مفهوم فكر بمضمون يهودي أو ما خطّه مفكر يهودي. ثم، ما هي اليهودية القديمة، الفكر اليهودي القديم؟ يحدّد بيرديفسكي اليهودية القديمة بالعبادة اليسرائيلية القديمة. وثنية تدور حول عبادة الطبيعة والأصنام ولا تلتزم بأي قيم أخلاقية. إنها كذلك حتى اليوم، حين تلتزم بعبادة القوة والحديد. إن الفكر اليهودي يرى أن شعب إسرائيل شعبٌ مقدّس يمكنه أن يفعل ما يشاء، ولا يزال الفكر على ما هو عليه. لا فكرَ يهودياً دينيّاً حديثاً كما هي الحال مع الفكر الديني الآخر من أنّى جاء. ثمة فكر ديني يهودي حديث عند أدونيس، من يرى فيه نظيراً للواقع الماثل على العالم من وجهته. فانتازيا شيّقة، ما دام أدونيس لا يشير إلى وجوه الحداثة في الفكر الديني اليهودي. إثارة زيف أمام أمثولات الواقع. واقع يقوم على المعطى الديني. لا شيء من الكوميديا الإلهية. تراجيديا نفسانية، لا يزال الرجل يجد انبلاجها كعروس البحر الفاتنة من تغوي الملّاحين في عرض البحر. عقل الرجل جحيم، عقل الرجل في غاباته المظلمة مثقل بالنوم، حيث يغشاه الوثن. مترحّل بلا أثر، يريد الابتعاد عن الجسد وقد قلّ تقيّده بالأفكار وهو يتكلم عن الفكر الديني. لا شفيع للفكر هذا. لا شفيع سوى كلام العصور الغابرة لا يزال يقوم عليها. لا يزال يتلعثم حين يحكي عن شعب الله المختار وشتاء المنّ والسلوى وهو شتاء «يا محلا» الشتاء النووي. هذه رحلة يصفها الرجل بالاستنساخ المنقوص. ذلك أنّ حداثة الفكر اليهودي أنشودةٌ لا تزال في عبورها الأول وهي على خطاها منذ آلاف السنوات. هذا ما يؤكده اليهود أنفسهم. خصّ الشاعر اليهودي، الألماني الشهير هاينرش هاينه، اليهودية بازدرائه، وحين فعل، خصّ الفكر الديني بازدرائه لأنّه سلّم اليهودية إلى علاقتها الرومانسية باليهود والغرب. كتب ذات مرة أن «اليهودية مصيبة وليست ديناً». بيرديفسكي الصهيوني الرومانسي النزعة، كونيها، حلولي الرؤية، أي إنه يرى أن الخالق حلّ في مخلوقاته، توحّد بها، تماهى معها. رفض الرجل العقيدة اليهودية القديمة لأنها لم تكن ذات نزعة سلمية.
إذن، عمّ نتكلم حين نتكلم عن الفكر اليهودي: الفكر اليهودي الصرف أم الفكر اليهودي الحاخامي؟ أم عن الطبقة التوحيدية؟ ما يراها يهود بارزون في العالم كبيرديفسكي نفسه دخيلة على العقيدة. يؤكدون أنّ الجبل المقدّس ليس جبل سيناء، وأنّ مؤسّس العقيدة اليسرائيليّة ليس موسى، إنما يوشع بن نون. وسط هذا الاحتدام الخلافي، حدّ الكلام على أنّ اليهود استوعبوا في يهودية مجرّدة خالية من الحياة. يرى أدونيس أن الفكر اليهودي الديني فكرٌ حديث، وهو لا يزال يدور على مصاطبه الأولى، في حين يجد أنّ الفكر الإسلامي تخلّفي. هكذا، لن يجد في الإسلام سوى المجاهدين، من دون تمييز بين مجاهد و«مجاهد». المجاهد الآخر مطلوبٌ في سرد طموحه. أما الأول، فمجاهدٌ لا يصدق لا بالمطلق ولا بالجهار ولا بتحوله إلى رفات وهو يواجه باللحم الحي آلة عسكرية، كأنها وحيد قرن معدنيّ أو ديناصور طائر تمت صياغته بمنتهى العناية. الكلام عن تخلّف الفكر الديني الإسلامي لأنّ من يقاتل الصهاينة اليوم مسلمون، إخوان مسلمون. انكشاف مباغت للرؤيا. لن أجافي الدقة، إذ أقول إنّ لا علاقة لي بالإخوان المسلمين، لا فكرية ولا غير فكرية، سوى من جهة قتالهم من أجل تحرير فلسطين لأنّهم فلسطينيون أولاً. هكذا، أجد في من يصفهم بعضُ العالم بالإخوان المسلمين، أنهم أولاد أرض لا يريدون غيرها، في حين لا يريد العالم أن يراهم سوى كأصحاب فكر ديني متخلّف أو «دواعش». منحت إسرائيل جرحى «داعش» و«النصرة» امتيازات طبية متقدّمة وأعادتهم إلى جبهات القتال في سوريا والعراق. أولاد ابن تيميّة أو أولاد السلف الديني. دعويّون عندهم أن الإسلام هو الحلّ. لم نقدّم صفات الرؤيا لدولة لا تزال تندفع في نشوتها، إذ لا تزال تسعى إلى إدخال نفسها في أقانيمها الدينية. ولا نقدّم صفات الرؤيا لمقاتلين أشداء لا يهابون شيئاً وهم يرون في العداء لمحتلّيهم حلّاً من حلول الحصول على حقوقهم. الحل في الإسلام عند الإخوان. الحل في التهويد عند اليهود. لا ضرورة للكلام عن الأواصر بين فكرة الدولة اليهودية وبين رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتتالية. لن يحل الأمر سوى تجاوز عالم الكلمات. كيف نبرر إذن دولة دينية يهودية تمنح المتديّنين كل الأسباب التخفيفية للحياة اليومية حدّ الخيال، حد عدم الانخراط في الجيش في مجتمع معسكر، ولا نبرر قتالها؟ كيف نجد في مجموعة دينية مجموعةً تمتدّ في الأصالة والتحديث قفزاً عن الأصالة. وكيف نجد في مجموعة دينية ما يجافي الحياة، فقط لأنها لا تريد لفلسطين أن يعاملها العالم كمجاز. لحظةُ تجلٍّ في مدار الأناشيد الأوروبية. ذلك أن ما يراه أدونيس هو ما تراه أوروبا بكثافة في إسرائيل بفكرها الديني الحديث، على ما يقول. فكر أوروبا الحديث في المناسبة، فكر نظام ثابت على ممالأة الكيان الصهيوني بصورة مريعة. فكر «حديث» يلاقي «فكراً حديثاً» في تطهير غزّة من مواطنيها أو الدفع بهم إلى صحراء سيناء أو الهجرة إلى الأردن ومصر. فكران دينيان «حديثان» يواجهان فكراً دينياً متخلفاً. كأن أوروبا وإسرائيل في عصر التنوير. لا صحة لهذا الكلام. ذلك أنّ الفكر الأوروبي فكرٌ يبدأ في الرابعة فجراً وينتهي عند الخامسة وسط رعب من لا ينتمون إلى أوروبا أو إلى هذا الغبار الكوكبي المسمى «إسرائيل»، في حين أنّ الفكر مفتوح أمام أصحاب العيون الزرق والشعر الأشقر في أوكرانيا، من يقودها مؤدّي أدوار فاشل، تحيط به جماعات قومية لا هم لها سوى تأجيج الصراع مع القوميات الأخرى.
لن يزعزع الكلام عن فكر ديني حديث التقاليد الصارمة في الفكر اليهودي، ولو عام على بحر من التخمينات واختفاء المذنبات. لن يخفّف من وقع الكلام على الإبرة الضخمة الملقحة بسمّ الهاوية الأميركية، ولا الكلام عن موت الشعب الفلسطيني. كلام يسقط بالكلام عن الإسلام المتعثمن في عباءة الإخوان المسلمين. إن أدونيس يذكّر بأن الخلافة بصورتها العثمانية دمّرت الإسلام الحضاري، ولم يبقَ منه سوى الهيكل والسيف (كل حملات إسرائيل على الفلسطينيين حملات ذات سيوف. حد السيف والسيف القاطع). دمرت الإسلام الحضاري، ثم، إنها تدمر الفكر اليهودي الحديث في جسد الجيش المستعمر والطائر خلف أنفاق في مجتمع محاصر لم نستطع أن نوصل إليه نسخة من كتاب، في حين أطلقت بيروت حملة المئة ألف كتاب لغزة في العدوان ما قبل الأخير («مؤسسة عامل» و«دار نلسن»). لا يخشى الرجل التجهيل. لا يخشى إهدار دم المقاومة الفلسطينية بحكمها بالعثملة. الأخونة بالضرورة. هدر دم على المكشوف، في لحظة صراع مرير. الظاهرة الخطيرة في التوقيت. حدث الأمر في بيروت التي قدّسها الرجل حين مُنح جوازها. بعدها، نعتها بأقبح الصفات في ندوة حورت في معاني بيروت، وجودها وجدواها. هو لا يدري أن بيروت كلما اكتملت انفجرت. لعب دوراً في اكتمالها. وحين حدث الانفجار، نبذه في انقضاء كل أشكال الحياة السابقة.
تتجعّد بيروت ولكنها لا تموت. تتجعّد فلسطين ولا تموت، علماً أنّ منظمات ماركسية وليبرالية في المعركة مع «حماس» و«الجهاد»، كالجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وكل من يحتفظ بروح التمرّد على الاحتلال. احتلال، احتلال، احتلال. لن يظهر شيء من التقدم في ظل الاحتلال، ولو خرجت خفقة ماء تشي بظهوره، بحدوثه. كلام عن المرأة في عبوديّتها وقيودها وغيابها شبه الكامل. كلام يؤكّد أن أدونيس بعيد أجيالاً من الأجيال. أجيال لا علاقة لها بجيله. لعلّه نسي الضوء الطبيعي. هو ضوء لا علاقة له بالاستهواء، ضوء لا تعوّضه الالتفافات بما ينقصها من المعلومات. لا تنتمي نساء غزّة إلى «ديور» و«بيار كاردان»، ولكنّهن أكثر النساء حرية حتى ولو ارتدَين إيشاربات الرؤوس وما لا علاقة له بالازدهار الوطني من وجهة نظر أدونيس. امرأة على تماس بمواطنيها، تودّع طفلها الشهيد بلونه الطيني الكالح جرّاء سقوط الأسقف عليه، كما تودّع زوجها وابنتها وكنتها وسلفتها بمشاعرها الأصليّة السوداء المتلألئة قبل أن تتغبر بغبار القصف. امرأة لا تهمّها اليهودية الجديدة ولا الفكر اليهودي الديني الحديث إذا تحدّث، إذ لا بدّ من وضع اليهودي قبل اليهودية، ووضع إسرائيل قبل التوراة. لذا، حلّ السيف محل التوراة. سيف لا يهدأ في لحم الفلسطينيين لا في قطاع غزة فقط، بل في الضفة الغربية. هل في «أمة الروح» كما يسمّيها أحاد حعام، فكر ديني حديث؟ لا يعتقد حتى اليهود ذلك. ذلك أن يوسف حاييم برينر (1881 – 1921) كمثال، وهو مؤلف يهودي روسي، يؤكد أنّ على اليهود أن يعترفوا بوضاعتهم منذ بدء التاريخ حتى يومنا هذا، وبكل نقائص شخصيّتهم الجمعية.
لا تنتمي نساء غزّة إلى «ديور»، لكنّهن أكثر النساء حرية ولو ارتدَين إيشاربات الرؤوس


أخطر ما في الكلام العام هو العام، التعميم. التعميم من أخطر الخطر لأن تحديد المفاهيم والمصطلحات الكامنة مسألة ضرورية لضبط العملية الفكرية وتنظيمها. لا يحدث الأمر هنا، ذلك أنّ لا مدلول محدّداً للكلمات والإشارات والمفاهيم. إطلاقات، فقط إطلاقات تؤكد العنصر الذاتي وتسييده، ما يوقع المصطلح في علم التواطؤ. هذا ما يحدث لأنه لا يرى في المقاتلين سوى سلفيَّتهم. عليهم أن ينتحروا لأنهم سلفيّون ثم يصبحون خضراً. سوف يسمح لهم بالعيش إذا تحولوا إلى خلاسيين أو يهود. هذه جرثومة مجموعة واسعة من المثقفين في العالم العربي. سلفيون يواجهون سلفية يهودية. ثمة ضجة دنيوية في الكلام عن السلفية، ولكنّ السلفيين ناس عاديون لا ناس غزاهم القمل في الفناءات الشاحبة. هذا اكتشاف لا علاقة له بديكتاتورية. ذلك أنني جدٌّ لحفيدين مارونيين، وحفيدة من السنّة من أم روم كاثوليك. لا أنتسب إلى سلفية ولا تناسبني. لا علاقة للأمر بالصلوات. يتعلق الأمر بنظام يقوم على المقاومة ثم طرد الاحتلال. بعدها نقف أمام عتوّ الانتماء أو وسطيته أو انفتاحه على العالم. لا علاقة للأمر بحب التماس المباشر في اللحظات الفاصلة، إلا عند مَن يحفر بئراً عميقاً بين الوعي ومحركاته، الوعي وطلعاته، الوعي وروحه، لأنّ الوعي بلا روح وعي ميكانيكي. كتابة أدونيس في «بيان لا يُلزِمُ أحداً غيري» («الأخبار» 4/12/ 2023) وهو كذلك، كتابة وحيدة، متجهّمة، على قدر من الادّعاء القيادي. أُذَكِّر بما يذكر، بأنه الحداثي الوحيد في عالم متخلّف. ثمة بعض الفضلات للآخرين. على الفلسطيني أن يبقى صامتاً عن الواقع المرعب في فلسطين المحتلة. اختزان الظلم والسيطرة والقوة الفائضة واجترارها أفضى إلى ما أفضى إليه في السابع من أكتوبر. لا أزال ميّالاً إلى كل ما هو أمومي، رؤوم. لكن ثمة رفض غريزي، ثمة اصطدام بالواقع، ولكن ثمة من لا يرى سوى رؤى سماوية. لا شيء ينجي سوى كبح النفس من جهة واحدة، كما لو أن الكابح يملك كنزاً غامضاً. الواقع أن الواقع أكثر تعقيداً من كلام يسطّح نفسه بالقصد حين يخاطب الآخر بمواعظ كأنها مواعظ يوم الجمعة، مواعظ يوم الأحد.
مقال أدونيس يذكر بكلام جاء في إيفا لونا لإيزابيل الليندي. الرب في السماء وأم الرب في السماء. من يحكم أكثر في السماء، أهو الربّ أم أمّه؟ لم أتمكّن من قبول مقال الرجل، إذ يُمضي وقتاً طويلاً في السماء في حين أن المعركة تجري على الأرض. أما بشأن الكلام عن الخلفاء الراشدين، عمر والإمام علي بين ثقافة السلطة والإدارة والعدل والحرية والحق والنبل، فهو كلام سوف يشكره طلاب الثانويات عليه، مَن تبقّى منهم. وهم لن يشكروه على كلامه عن خروج المسلمين من الأفق الإنساني النموذجي، لأنّهم لا يرغبون في تعزية بعض عائلات الاحتلال أمام خمسين ألف شهيد وجريح في غزة حتى يوم الرابع من كانون الأول (ديسمبر) بحجة الدفاع عن النفس. ما علاقة الدفاع عن النفس بخياطة مستقبل الفلسطينيين خارج فلسطين؟ كأنّ أدونيس يقول «اسكت وتعبّد». كلام يقع على العذاب والمعجزات. العذاب لأهل فلسطين لأن مقاومتهم «معثملة» والمعجزات لأهل «إسرائيل» من غرب لا يدري بأنه يقود نفسه إلى الهاوية.