أعلنت حركة «حماس»، إثر هجومها على غلاف غزة المحتل، أن هدفها هو تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين والدفاع عن المسجد الأقصى الشريف، إلا أن مفاعيل هذا الهجوم غير المتوقّعة كانت هائلة مقارنةً بهذين المطلبين الإنسانيين المتواضعين، اذ إنها كشفت هزال الأمن الإسرائيلي، وبقيت أرض «إسرائيل» دون حماية وفي حال تخبّط لمدة ساعات طوال، وكان بإمكان أي قوة أخرى من خارج «إسرائيل» أن تدخل دون أن تجد أي مقاومة تُذكر. أوّل هذه المفاعيل، إذاً، سقوط صورة «إسرائيل»، الدولة القوية الباطشة التي لا تهاب أحداً، ما أدّى إلى صدمة في دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فسارع رئيسها إلى درء عجزها بالمجيء شخصياً بعد إرسال الأساطيل إلى شرق البحر المتوسط، متماهياً مع «إسرائيل» وداعماً لمجازرها بما أنها تمثّل القلعة التي تحمي المصالح الغربية، وهي العصا التي تهدّد بها الأنظمة العربية، فتنصاع لإرادتها.
ثاني هذه المفاعيل، تحوّل عملية تحرير الأسرى من قبل «حماس» من مجرد «عملية» شبيهة بعملية حزب الله في شمال فلسطين عام 2006، إلى حرب تُخاض للمرة الأولى في قلب الأراضي المحتلة، وليس من خارجها كما كان الأمر منذ عام 1948، أي قلب موازين القوى السائدة، وهذا الانقلاب في موازين القوى في مشرقنا العربي البالغ الأهمية الإستراتيجية، يهدّد موازين القوى العالمية، وبالتالي يؤدّي إلى تدخل الدول الكبرى، وهذا ما حصل.
ثالثاً، تأكّد الإسرائيليون أنه بعد السابع من أكتوبر لا أمان لهم، وتلاشى مفهوم الردع الذي على أساسه بُنيت الأيديولوجية الصهيونية القائلة بإيجاد وطن آمن لليهود، وأصبحنا اليوم أمام مقولة «لا أمان للإسرائيليين طالما الفلسطينيون يفتقدون الأمان على أرضهم».
رابعاً، تهاوي مقولة «الدفاع عن النفس» التي تمسّكت بها حكومة نتنياهو ودعمتها الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا، أي الدول الكبرى الغربية، لأن عملية «حماس» أظهرت أن من يدافع عن نفسه هو الفلسطيني المنتهكة أرضه، والمحاصر من قبل «إسرائيل» التي تريد إلغاء وجوده، وبالتالي، شرعية دعم وجوده من قبل محور المقاومة في العراق وسوريا ولبنان، وإيران الجادّة في إعادة الحق إلى أصحابه.
خامساً، أدّت عملية «طوفان الأقصى» إلى توقف عملية التطبيع التي كانت سائرة على قدم وساق، وفي ظن إدارة الولايات المتحدة أن القضية الفلسطينية قد انتهت، وأن الحل هو بتوطين الفلسطينيين حيث هم، وتهجير من تبقّى منهم إلى مصر والأردن، أي إنهاء القضية الفلسطينية لصالح الهوية اليهودية القومية الصهيونية كما نصّ وعد بلفور: «إنشاء وطن قومي».
سادساً، إيقاف مشروع تهميش المبدأ القومي بالنسبة إلى الشعوب العربية، واستبداله بالمبدأ الديني، وتعايش الأديان، فيصبح وجود «الإسرائيلي» مجرد يهودي يريد أن يعيش بسلام مع المسلم والمسيحي. فبإلغاء الحق القومي للفلسطيني، يتوقف اعتبار الصهيوني صاحب مشروع استعماري استيطاني للهيمنة على المنطقة العربية، وينتج عن ذلك تقسيم سكان المنطقة إلى مسيحيين ومسلمين ويهود: فالفلسطيني المسيحي يتحوّل إلى لبنان، وهذا ما حصل في خمسينيات القرن الماضي حيث سارع الرئيس كميل شمعون إلى إعطائه هوية لبنانية، بينما يتم تهجير المسلم الفلسطيني من الضفة الغربية وغزة، إلى مصر والأردن، بالتزامن مع اعتراف المملكة العربية السعودية بإسرائيل، وهكذا، يتحول «الفلسطيني» و«الفلسطينية» إلى مجرد مسيحي/ة ومسلم/ة، في ما يعلن اليهودي هويته القومية «الإسرائيلية» فيكسب هذا الأخير الأرض باسم قوميته، ويخسرها الفلسطيني باسم دينه، ولا يعود له وجود.
سابع هذه المفاعيل، إعادة فتح موضوع القضية الفلسطينية، وإيجاد دولة مستقلة للفلسطينيين، بعد أن كان الغرب قد حذفها من قاموسه، فنجد رؤساء دول كفرنسا يطالبون بدولة فلسطينية لأنها الضامن الوحيد لإنهاء الصراع في المنطقة.
ثامناً، إيقاف مشروع مواجهة الخطوط التجارية الصينية عبر إنشاء خط آخر تدعمه الولايات المتحدة يبدأ في الهند، ويمر عبر السعودية و«إسرائيل»، وينتهي في أوروبا، وهو خط منافس لطريق الحرير الصيني الذي يمر عبر إيران-العراق-سوريا فالبحر المتوسط. كذلك، ساهمت «طوفان الأقصى» في تخفيف الضغط عن روسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا، وأصبح العالم الغربي مشدوداً إلى متابعة ما يحصل في هذه المنطقة الجوهرية لمصالحه الجيو-إستراتيجية والاقتصادية معاً، خاصة أن بحر غزة يحتوي على كميات كبيرة من الغاز أسوة بكل الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
تاسعاً، إنّ حرب «طوفان الأقصى» عرّت الغرب ورياءه ونفاقه حول قوانين الحرب التي وضعها بنفسه، كتحديد معايير إنسانية حين خوض الحروب، ووجود منظمات دولية فاعلة تعمل بموضوعية في هكذا ظروف من أجل حماية المدنيين العُزَّل وتطبيق القوانين الدولية. هذه كلها أسقطها الغرب حين دعم ارتكاب المجازر وشلالات الدم، وهدم المنازل على رؤوس ساكينها، وحلّل لـ«إسرائيل» تخطي كل الحدود.
في خضمّ كل هذه المفاعيل غير المتوقّعة من قبل معركة «حماس» لتحرير الأسرى، ستسارع الدول الغربية إلى وضع حلول تفرضها على المنطقة، فيما ترفض «إسرائيل» أي طرح يتناول إقامة دولة فلسطينية، ليس فقط لأنها تريد أن تلغي اسم فلسطين من القاموس العالمي، بل لأنها لا تريد أن تضع حدوداً جغرافية لدولتها. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم المعترف بها دولياً بالرغم من عدم وجود حدود جغرافية لها! هدف «إسرائيل» بناء «إسرائيل الكبرى» الممتدّة من سيناء إلى نهر الفرات في العراق، وما الاستيلاء على جنوب لبنان أو الجولان إلا خطوات في هذا الاتجاه. وما ساهم في دفع «إسرائيل» إلى محاولة تحقيق هذه الدولة الكبرى، هو تقسيمات سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي لمنطقة الهلال الخصيب مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بشكل يجرّد فيه هذه المنطقة من أي قوة فاعلة لصدّ عدو خارجي.
فقط بناء مقاومة وطنية تمتد عبر هذه الحدود الوهمية والمصطنعة، تستطيع أن تواجه هذا العدو الصهيوني الطامع في أرضنا، وتنتصر عليه. ولقد فعلت المقاومة الكثير من أجل تحرير أرض الجنوب، وانخرطت في مواجهة الحرب على سوريا عام 2011، وساندت كل القوى الفلسطينية في دفاعها عن أرضها، ودعمت غزة وخفّفت من الضغط الصهيوني عليها، لأن المقاومة تعي بأن هذه المعركة، من الفرات إلى سيناء، هي معركة واحدة، ويخطئ من يظن أن لبنان أو سوريا أو العراق، كلّ هذه الدول لا علاقة لها بما يجري في فلسطين المحتلة.
عملية تحرير الأسرى التي خطّطت لها «حماس» فجّرت كل هذه المفاعيل دفعة واحدة، ما سيؤدي إلى نتائج بالغة الأهمية لم يكن أحد يحسب حسابها، وعلينا دراستها والتحسب لنتائجها لأنها ستمسّ مصير المشرق العربي برمّته.

* أستاذة جامعية