لعله لم يكن الحافز مناقشة ما جاء في مقال الدّكتورة صفية أنطوان سعادة بعنوان «إشكالية طرح وزير خارجية إيران استفتاء في فلسطين»، بمقدار ما هو توضيح رؤية الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران تجاه قضية فلسطين.يمكن القول إنّ إيران، في تعاملها مع القضية الفلسطينيّة، تملك إستراتيجيّة تقوم على أمرين:
الأوّل، يتضمّن الانخراط الفعليّ والعمليّ في مشروع تحرير فلسطين، وبشكل أساسيّ عبر دعم حركات المقاومة في المنطقة بشتى السّبل الممكنة.
والثاني، يتضمن تقديم رؤية سياسيّة تقوم على فكرة حلّ الدّولة الواحدة، وليس حلّ الدّولتين، في فلسطين المحتلة.
ومن الجيد الإشارة إلى أن لا تَنافيَ بين الأمرين، لأنّ كلاً منهما يوصل إلى النتيجة نفسها، وإن كان الاعتقاد أنّ التّحرير الفعليّ لفلسطين، والوصول بقضيّتها إلى خواتيمها، لن يحصل إلّا عبر فعل المقاومة ومشروعها.
وهنا سوف أقسّم المقال إلى مبحثَين اثنين:
الأوّل، يرتبط بهذا السّؤال، وهو: لماذا لم تتبنَّ الجمهوريّة الإسلاميّة حلّ الدّولتين -كما هو مطروح في اتفاقيات السّلام ذات الصّلة والمبادرة العربيّة - لتذهب بدلاً من ذلك إلى حلّ الدّولة الواحدة؟ والجواب - باختصار وببساطة - لأنّ في حلّ الدّولتين اعترافاً بشرعية الاحتلال الإسرائيليّ لجزء من فلسطين، وهذا ما لا ترضى به إيران لأنه يخالف مجمل القيم الّتي قامت عليها ثورتها، وإستراتيجيّتها الفعليّة الهادفة إلى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
الثاني، يرتبط بما جاء في المقال المذكور من: «مناقشة موضوعَين جوهريَّين أساسيَّين... أوّلهما: مساواة المحتل وصاحب الأرض... والموضوع الأساسي الثاني، يتمحور حول واقع الدّولة الوطنيّة القوميّة الّتي لا يجوز الخلط بينها وبين الدّين».
وسوف أناقش كلّاً من هذين الموضوعين اللذين وردا في المقال:
- المناقشة الأولى: إنّ البيان السياسيّ لرؤية ما قد يحتمل الإجمال في مورد، والتّفصيل في آخر، ولكن إن أردنا مناقشة هذه الرّؤية ونقدها في مجمل عناصرها، فلن يكون صحيحاً الاكتفاء بتصريح سياسيّ أو موقف سياسيّ في مقابلة أو أخرى، وإنّما يحتاج الأمر إلى استقصاء جميع عناصر هذه الرّؤية ومفرداتها، حتّى يمكن البناء على ذلك استنتاجاً أو آخر. وهذا ما لم تفعله كاتبة المقال، إذ إنّها اعتمدت على مقابلة تلفزيونيّة في هذا الشّأن، مع أنّ هذه المقابلة تحتمل أن يكون البيان مجملاً فيها وبالتّالي غير مكتمل الأركان، ما يتطلب مزيداً من البحث في هذا الخصوص.
وهذا البحث في ما طُرح حول إجراء استفتاء في فلسطين المحتلة بين اليهود والمسيحيّين والمسلمين، يُقصد به السّكان الأصليون فقط، من دون مشاركة المستوطنين والمحتلّين، وجميع الّذين تمّ جلبهم من أربع رياح الأرض. وبتعبير آخر: فليَعُدْ المحتلّون إلى البلاد الّتي جاؤوا منها من أوروبا وأميركا وغيرها، وليبقَ من اليهود من كان من السّكان الأصليين في فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيليّ لها، ليعود جميع الفلسطينيّين الذين هُجّروا من فلسطين، إلى وطنهم وأرضهم وديارهم، ثمّ يُعمل على إجراء هذا الاستفتاء.
وعليه، ليس صحيحاً القول «كيف تقبل فلسطين بطرح استفتاء يساوي بين المحتل وصاحب الأرض؟»، ووجه عدم الصّحة في هذا الكلام، أنه بناءً على ذاك الطرح، لن يكون عندها في فلسطين محتلٌ أساساً، حتى يأتي الكلام عن مساواة بينه وبين صاحب الأرض.
- المناقشة الثانية: أنّه عندما يتمّ الحديث عن اليهود والمسيحيّين والمسلمين، مرةً يُقصد البعد المعتقديّ والدّينيّ، وأخرى بقصد البُعد الطائفيّ الاجتماعيّ، وما يُفهم من ذاك الطرح هو الثاني وليس الأوّل، واستخدام هذا الوصف من باب أنّه الواقع القائم في فلسطين. وما كان موجوداً في فلسطين قبل الاحتلال هو هذه الطوائف الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة، وخصوصاً أنّ طرح الاستفتاء لم يُهمل البُعد الوطنيّ القوميّ، لأنّ المقصود بهذا الطرح هو الفلسطينيون وحدهم، وليس أيّ أحد آخر، لأنّه عندما يكون الحديث عن السكان الأصليين لفلسطين، فالمقصود بهم الفلسطينيون وليس أحداً آخر.
نعم هذا التّوصيف (يهود، مسلمون، مسيحيون) الذي قد يستخدمه بعض السياسيّين يلحظ طبيعة الانقسام الواقعيّ القائم في فلسطين المحتلة، إذ إنّ مجمل اليهود كطائفة اجتماعيّة هم في جانب، ومجمل المسيحيّين والمسلمين هم في جانب آخر .هذا فضلاً عن أنّ حصر الفهم الدّيني في الجانب الفرديّ، يجافي الواقع، لأنّ الدّين في فهمه، قد يتحول إلى رافدٍ لأيديولوجيّة ما، أو عقيدة سياسيّة أو غير سياسيّة معينة، أو إلى جزء من هوية شعب ما أو مجتمع ما. وهذا الحاصل على مستوى العلاقة بين اليهوديّة والصّهيونيّة، إذ لا يمكن الوصل بينهما إلى حدّ إلغاء التّمايز، ولا يمكن الفصل إلى حدّ ادعاء التّباعد، وإنّما لليهوديّة - ولو في أكثر من فهم لها - حضور ما في الصّهيونيّة وأيديولوجيّتها، وهو ما يحتاج إلى بيان منفصل.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة