غزة | يَمنح وقف إطلاق النار مساحةً لاكتشاف حجم البشاعة، في مدينة الشيخ زايد، شمال مستشفى «الإندونيسي». هنا، دمار على مدى البصر. أينما وَلَّيت وجهك، لا تجد سوى الأبراج المدمّرة، جزئيّاً أو كليّاً. المدينة التي تحوي أكثر من 65 برجاً سكنياً، يتكوّن كلّ برج منها من خمس طبقات، كلّ طبقة تتألّف من ثلاث شقق سكنية، أضحت مدينة أشباح، حيث لم يكتفِ الطيران الحربي وسلاح المدفعية بتدمير المنازل، بل طاول قصفهما كل البنى التحتية: شبكات الصرف الصحي، الكهرباء، المياه العذبة، مدرسة «خليفة بن زايد»، ومسجد المدينة الذي كان أيقونة شمال غزة الأجمل. وعلى خطّ موازٍ شمالاً، حيث مدينة العودة السكنية التي تتكون من 14 برجاً، يحوي كلّ واحد منها أكثر من 30 وحدة سكنية، هُدمت هذه هي الأخرى تماماً. وإلى الشمال أيضاً، مُحيت عن بكرة أبيها مدينة الندى السكنية، التي تتكون من أكثر من 50 عمارة، تحوي أكثر من 400 وحدة سكنية.في تلك المنطقة، تنعدم وسائل المواصلات، إذ إن الطرق جميعها تعرّضت لأحزمة نارية. ومع ذلك، يشقّ الأهالي الحفر العميقة، ويذهبون إلى منازلهم لانتشال ما يمكن الإفادة منه. على أن الطموح الذي تتركه مشاهد الدمار، متدنٍ جداً: قليل من الطحين، وبعض الملابس والأغطية التي لم يطاولها الحريق. بالنتيجة، كل شيء مهما قلّ ثمنه، مفيد جدّاً، حينما تكشف المجاعة عن أنيابها.
أمام أحد أبراج مدينة العودة، التقينا أم ناصر، وهي سيدة تتجاوز الخمسين من عمرها ببضع سنين، وذلك في شقتها المقصوفة. هناك، استشهد زوجها الذي كان قد أقسم عليها أن لا يغادر منزله، وإنْ كان مصيره القتل. حينما بدأ القصف، استحلفته بكلّ الكتب السماوية أن ينزح برفقة أبنائها الخمسة إلى مخيم جباليا، ولكنه أبى. تقول، لـ«الأخبار»: «قال لي أبو ناصر، إنه هُجّر مرّتَين، في حربَي عام 2008 و2014، ولن يقبل على نفسه أن يُذلّ مجدّداً، لأن ما تبقّى من العمر، لا يستحقّ التشبّث والمعاناة. فرش سجادة الصلاة، وجلس منتظراً مصيره (...) أملي أن أخرجه من تحت الركام وأُحسِن دفنه بجانب والده وابنه الشهيد كما أوصاني، ومن أجل ذلك أنا هنا الآن». غير أن ما تتمنّاه أم ناصر يبدو محالاً، إذ لا معدّات ولا آليات ولا طواقم دفاع مدني يمكن أن تقوم بالمهمّة. ربّما قدره أن يذوب جسده مع حجارة بيته الذي رفض مغادرته، لأن مهمّةً كتلك، بحاجة إلى أشهر لإنجازها.
هل ستعود الحرب؟ هذا السؤال يتكرّر 1000 مرّة في الدقيقة ولا إجابة قاطعة


تتكرّر المشاهد عينها في أبراج الندى، حيث يتمدّد الذهول على الوجوه. ثمّة مبنى سكني لم تركّعه الطائرات الحربية تماماً، إذ دُمّرت أعمدته السفلية، وبقي منتصباً. على الشرفة، سيدة في الربيع الثالث من العمر، تحاول كشط طبقات الغبار، وتسقي أصص وردٍ ولبلاب متسلّق، لم يطاولها الحريق بأعجوبة. من على حافة الرصيف المدمّر، أمعنّا النظر إليها. استدعت زوجها، الذي لم يتردّد في دعوتنا إلى احتساء شاي الصباح برفقته. بصعوبة بالغة، وصلنا إلى الشقة، فدرج البناية مدمّر تماماً، فيما يحتاج الأمر لياقة جسمية هائلة لتلافي السقوط على قضبان الحديد التي أنشبت أظافرها من بين الإسمنت. على باب الشقة في الطابق الرابع، كان أبو أحمد يعطينا توجيهاته: على أيّ كتلة إسمنتية نضع أقدامنا كي لا نهوي. وصلنا بشق الأنفس. وهناك، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه الرجل: «تفضّل يا طيّب... شويّة بيجهز الشاي». بعد دقائق من الترحيب، سمعنا صوت الزوجة من خلف الجدار المدمّر، ثم عاد أبو أحمد ليقول: «أم أحمد بدها تشرب الشاي معنا بتستأذن، فيه مجال؟ (...) أهلها كلهم استشهدوا وبدها تستفسر عن مصير سكان العيون». دخلت ومعها إبريق مذهّب، وإلى جانبه ثلاثة أكواب منتقاة ومتناسبة تماماً مع الإبريق. ثمّة عناية هائلة بالتفاصيل رغم الأهوال.
تذيب الحرب كثيراً من الحواجز الاجتماعية، الرجال إخوان لكل النساء: «هل ستعود الحرب؟»، سألت السيدة التي تعمل معلّمة في مدرسة حكومية. هذا السؤال يتكرّر 1000 مرّة في الدقيقة... ولا إجابة قاطعة.
إلى عزبة بيت حانون، شرق أبراج العودة، ساقتنا أقدامنا المنهكة. كلّما شاهدنا أحداً، كرّر العبارة: «شو بدّك تصوّر لتصوّر، كلّ البلد مدمّرة». ليس ثمّة ما هو جديد في هذا الحي. التدمير نسخة كربونية، والناس، كلّ الناس، يمارسون السلوك ذاته. أنابيب غاز، أغطية وملابس مصبوغة بالغبار، يحملها الرجال والنساء والصبية. غاب قرص الشمس، وبدأت رحلة العودة، مشياً على الأقدام أيضاً. كُحل الليل لا يخرقه سوى مشاهد بعض الأُسر التي تحلّقت وسط البرد القارس حول موقد النار. لا يكفّ الأهالي عن دعوة كلّ مَن يمرّ لاحتساء فنجان قهوة أو كوب من الشاي. فوق واحد من المنازل المهدومة، التقينا معتصم، وهو طفل في الصف السابع الأساسي، يجالس خمسة من أصدقائه: «شو بتعمل يا معتصم؟». أجاب من دون تردّد: «فوق ركام البيت، حتى أشعر إنو لسا في إلنا دار». «ما رأيك أن نسافر إلى هولندا سويةً؟»، سألته، فأجاب من دون تردّد: «والله ما بنطلع من هان إلّا على الجنة». ثم حضرت أسطر محمود درويش في ذهني سريعاً: «يا نوح لا ترحل بنا... إنّ الممات هنا سلامة، إنّا جذور لا تعيش بغير أرضٍ... ولتكن أرضي قيامة».