تخيّلوا لدقائق، لو أن عشرات العمليات التي تنفّذها المقاومة الإسلاميّة على الحدود مع فلسطين المحتلّة، لم تكن موثّقة بالصوت والصورة. في 18 أيلول (سبتمبر) 1986، وثّقت المقاومة أول عمليّة مصوّرة تمثلت في اقتحام موقع سجد، وأُسّس الإعلام الحربي بشكل رسمي. منذ ذلك الحين، تركت عدسة المقاومة أثرها الكبير على المعارك مع العدو، ولا سيما في تحرير الجنوب عام 2000. رافقت «عقدة الصورة» العدو الإسرائيلي في جميع معاركه، أهمها عقدته في حرب صورة العلم ورفع الراية. ويمكن القول إنّ جزءاً كبيراً من الحرب التي تقودها «إسرائيل» منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، هي بهدف ترميم صورتها المهشّمة، في محاولة لإزالة وصمة عار «طوفان الأقصى». وفي الوقت الذي يبحث فيه الاحتلال عن صورة انتصار له، تُقرّ وسائل إعلام العدو ومحلّليه بأنّ حزب الله «حقّق إنجازات على مستوى الوعي»، وأنه «يستخدم ببراعة الحرب النفسيّة عبر نشر مقاطع فيديو للعمليات، وشرح لموقع العمليّة الجغرافي عبر تحديده نقطة الاستهداف على الخريطة، وتلخيص جميع العمليّات في ختام اليوم حيث يظهر مدى اهتمامه بالمعركة الإعلاميّة». يُعتبر ضمّ الخرائط خطوةً نوعيّة قام بها الإعلام الحربي في هذه الحرب، إضافة إلى الملخّص اليومي لعمليات المقاومة إلى جانب استخدام المشاهد التشبيهيّة، والمصطلحات الدقيقة لبعض الأسلحة والمسيّرات، وتمرير بعضها في المشاهد، والتلميح لأسلحة لم تُستخدم بعد، مع ما يحمله ذلك من رسائل رادعة. ومن جملة تأثيرات الفيديوات الحربية، أنها دحضت مزاعم العدو في نكران الخسائر البشريّة، وإرجاع الكثير منها إلى «انقلاب دبابة»، حيث توثّق عدسة المقاومة «ابتلاع» جنود العدو الصواريخ، وحتمية مقتلهم. ودحضت كذلك تسخيف الخصوم مسألة استهداف «الأعمدة» على الحدود. توضيحاً للخصم، واحتراماً لجمهوره، أعدّ الإعلام الحربي مقطع فيديو مفصّلاً عن دور التجهيزات التقنيّة للعدو جنوباً في التجسّس واختراق خصوصية اللبنانيين، والرصد والتنصّت على الاتصالات واختراق الإنترنت والتشويش والتواصل مع العملاء. ومن الأدلة على أهمية هذه التجهيزات، عمل العدو الحثيث على إعادة الترميم ولو في نقاط أبعد، والمخاطرة بجنوده، وتكثيف عمل المسيّرات التجسسيّة للاستعاضة عن هذه الخسائر.
وما لا يعرفه كثيرون أنّ مهمة المصوّر في الإعلام الحربي، ومن خلفه، مهمّة معقّدة، دونها تحدّيات كبيرة، أبسطها التقاط الصورة، مع الإشارة إلى أنّ جزءاً كبيراً من هؤلاء الشباب المصورين، هم من شباب التعبئة المتطوّعين المندفعين، وقد سقط منذ بداية الحرب شهيد للإعلام الحربي، هو من شباب التعبئة. عَمَلُ هؤلاء استشهاديٌ خالص، حالهم حال رامي الصواريخ، تحت أعين المسيّرات. وهم شركاء أساسيّون في تحقيق الانتصار، وفي حرب الصورة مع العدو الإسرائيلي. وجُلّهم يعمل وفي خلفيته قناعة يقينيّة بأن ثقافة الصورة جزء أصيل من المعركة، وأن مهمته لا تقلّ أهمية عن مهمة أي مقاوم فدائي. هم جيل معايش للثورة الرقميّة، يدرك أهمية الصورة وتركيبتها، والتبيان بالأدلة، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي.
تحدّيات التوثيق في المعارك.
ويمكن تلخيص أبرز التحدّيات التي يواجهها المصوّر في ميدان المعركة بالآتي:
• تحدّي الجغرافيا: يتمثّل في صعوبة أخذ الزاوية المناسبة لالتقاط الهدف بأفضل صورة ممكنة، وفق النقطة والتضاريس التي تحكم عمل المصوّر، وطريقة التخفّي قبل وبعد وأثناء التصوير. وهو يشمل تحدّي البيئة المحيطة، إذ تُقيّد الظروف طريقة التغطية، حيث يواجه صعوبة أحياناً في ما يخصّ الرؤية والمسافة، وتحدّي الطقس من ضباب وغير ذلك.
• تحدّي الزمان الذي يتمثّل في اختيار التوقيت المناسب لالتقاط المشاهد.
• تحدّي الحفاظ على المادة بعد التصوير الذي يتمثّل في انتقال المصوّر إلى مكان آمن، بعد استهداف المقاومة الذي يستدعي تحركاً سريعاً للعدو، للردّ على مصادر إطلاق النيران. فهو يحافظ على هذه المادة، كما يحافظ المقاوم على سلاحه بكل ما أوتي من قوّة.
مع كل هذه التحدّيات، نجح الإعلام الحربي في مقارعة العدو بالصورة، وأقرّ مراقبون غربيون متخصّصون في الشؤون العسكريّة، «بالمستوى العالي لتصوير العمليات وإظهارها باحترافية». وفي عصر حرب الصورة، لا تقلّ مواجهة العدو بهذا الجانب عن مجابهته عسكريّاً. فالمعارك العسكريّة تتوقف، لكن الحرب على الوعي تستمر من دون هوادة.
جيل عايش الثورة الرقميّة وأدرك أهمية الصورة، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي

فلا نتوقع أن يخرج العدو، مع كلّ رقابته وتشديده، ليعترف بخسائره، إلا أن عدسة الإعلام الحربي مزّقت هذه الرقابة إلى غير رجعة.
من جهة العدو، الأمر مختلف. هو يبذل جهداً لاستقطاب صحافيين في الأماكن التي يُحدّدها، بسبب ذعر المراسلين الإسرائيليين. هنالك اختلاف ثقافات ظهر أثناء تغطيات المراسلين الحربيين للعدو، قياساً بتغطية الصحافيين الموالين للمقاومة من جانب لبنان. إضافة إلى ذلك، يعمل العدو بشكل حثيث على إجراء تعتيم إعلامي واسع للخسائر المادية والبشرية، ورقابة على النشر وعلى صحافييه هي الأشدّ في تاريخه، و«تكتّم شديد على التكتيكات العسكريّة التي يعتمدها، لمنع عدوّه، أي حزب الله، من فهم ما يحدث في الميدان، فيصعب عليه اتخاذ القرارات الصائبة». هو لا ينفكّ، للسبب عينه، يقتل ويهدّد الإعلاميين ويستهدفهم لمحاولة إسكاتهم، سواء في لبنان أو في فلسطين المحتلة، أو غيرهما. كثيرون فُصلوا من مؤسسات عملهم بسبب مواقفهم الداعمة لغزّة. ولا تقتصر حربه الإعلاميّة على الصحافيين فقط، بل تطال النخب الثقافية والفنيّة والاجتماعيّة والمؤثرين، لإسكات كل صوت مناهض لجرائمه، إضافة إلى سعيه المتكرّر لقطع الاتصالات والإنترنت في مناطق النزاع، والتفاف كبريات شركات وسائل التواصل معه، والتضييق على المحتوى الرقمي المقاوم. هنالك حرب ثانية تُخاض في العالمين الإعلامي والرقمي، لا تقلّ شراسة عن الحرب العسكريّة الدائرة. متابعة لصفحة الناطق باسم «جيش» العدو أفيخاي أدرعي، وغيرهم من توابعه المتوجهين إلى الجمهور العربي، تظهر أنّ هؤلاء فشلوا في إقناع الجمهور بالكثير من رواياته، وقد اضطر في مرّة لاستخدام مشاهد لغارات في سوريا على أنها في غزّة، والإعلان عن انتصار وهمي تمثّل في الكشف عن صورة زعم أنها تعود للناطق العسكري باسم «كتائب القسّام»، وهي صورة نشرها العدو قبل تسعة أعوام، وغيرها من الصور التي تبيّن أنها تعود لتواريخ قديمة. المفارقة أن أهم الوكالات والصحف (CNN، «الغارديان»، «نيويورك تايمز» وغيرها) التي تتبنّى رواية العدو، لم تستطع هضم مسرحية الأسلحة في «مستشفى الشفاء» في غزّة التي كانت رواية إضافية في سلسلة رواياته الهوليووديّة. وكل ذلك إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على أهمية الحرب الإعلاميّة، حيث تُعتبر عدسة الإعلام الحربي درّة تاجها.
تطوُّر العمل الإعلامي لدى المقاومة، ومحاولة ترسيخ الرواية الصحيحة، أمر سيسهم في هزيمة سردية العدو الإسرائيلي وينخفض تأثيره في الإقناع، ونشهد اليوم صحوة حقيقيّة خارج هذه الرواية في كل أرجاء العالم، ظهرت جليّاً في التظاهرات ولدى الشخصيات المؤثرة في الرأي العام، وفي التضامن الرقمي الواسع.