بدأ تآكل الردع منذ عام 2000، أول هزيمة للكيان المؤقّت، حيث تلاشى الشعور بالقدرة على التوسع والاحتلال رداً على حركات المقاومة، وتبدّلت حالة ضعف الآخرين إلى القدرة على إكراه الكيان على الانسحاب. وبقفزات متتالية في لبنان 2006 وحروب غزة المتواصلة وصولاً إلى تشرين 2023، فقدت «إسرائيل» هيبتها، وأصبحت حركات المقاومة تقصف مدنها الداخلية وعاصمتها وتذل قواتها البرية وتبادر إلى المواجهة كما في «سيف القدس» 2021 و«طوفان الأقصى» 2023. في الطريق إلى استرجاع الردع الذي يسير فيه الكيان مكرهاً تحت تأثير صفعة السابع من تشرين، أتيح لسلاح الجو أن يستبيح قطاع غزة ولدبابات الجيش أن تنتشر في شمال القطاع وبعض جنوبه، وتشتبك مع مقاتلي القسام، وفي الطريق كذلك فُتحت جبهة لبنان بعد 17 عاماً من السكون، وفُتحت جبهة اليمن والعراق أيضاً. ومع تواصل المجازر، استنفرت شعوب العالم، ومن ضمنها شعوب الدول الغربية نفسها التي استنفرت أساطيلها خشية أن يكون الهجوم على الغلاف مقدّمة لعملية إقليمية إستراتيجية لاجتياح الأراضي المحتلة وتحريرها.
يتعرض محور المقاومة لضغط شعبي كبير لزيادة نسبة ووتيرة تدخّله، لكنه لا يزال يعمل بشكل تدريجي من خلال الاقتراب الموزّع، وتحويل حرب غزة إلى حرب إقليمية لكن على مراحل ممتدّة، لنقل الكيان المؤقت من أزمة ردع موضعية في غزة إلى أزمة ردع شاملة تطاول الشمال والوسط والجنوب حتى إيلات، فنكون قد دخلنا مسار الحرب الطويلة لتفكيك الأمل بإمكانية استعادة الأمن وبدء الهجرة العكسية لليهود الغاصبين للأرض.

متلازمة نتنياهو
يمكن للكيان المؤقّت أن يكتفي بما نزف حتى الآن من الردع وأسس الأمن التي يستند إليها في استمرار اغتصابه لأرض فلسطين، ويخرج من الكمين التاريخي بأقل الخسائر، أي عبر استعادة للردع الموضعي في غزة التي تحتاج إلى سنوات طوال لتستعيد عافيتها، لكنه مصاب بمتلازمة نتنياهو، عقدته الشخصية كفاسد يهرب من السجن، هي العقدة نفسها التي غذّت النزاع اليهودي العميق قبل الحرب.
جاءت الحرب كمصعد لنتنياهو يستخدمه للخروج من أزمته، فإذا انتصر في غزة سيُتوج كمنقذ للدولة اليهودية التي ناهزت الثمانين المقلقة. يمارس نتنياهو في هذا السبيل عمليات إقناع على مستوى قيادي وشعبي لإطالة أمد الحرب، ومع بدء نواب ووزراء من الليكود البحث عن بدائل لما بعد سقوط الملك الفاسد، أصبح وجوده في رئاسة الوزراء على المحك، فتمسّك بالشيء الوحيد الذي يبقيه واقفاً وهو غبار الحرب.
ينوء نتنياهو حالياً تحت ضغط كبير، إذ بدأت الأسئلة حول جدوى العملية البرية تتهرّب من سلطة الرقابة العسكرية التي تستند إليها ديكتاتوريته، فسمعنا أصواتاً كثيرة بعد الخيبة الكبرى في مجمع الشفاء، واضطر لإلغاء زيارة لجرحى الحرب الذين دفع بهم إلى أتونها خوفاً من تعرضه للإهانات، تراجع وضعه الصحي والعصبي والنفسي بشكل واضح، ويشير خبراء إلى أن ملامحه توحي بوقوعه تحت وطأة إدمان حادّ. قيادة كهذه هي فرصة لأعداء الكيان المؤقت.

الاندفاع للحرب
ثمّة إجماع يهودي كبير في المجتمع الصهيوني على استمرار الحرب حتى القضاء على «حماس»، وبغضّ النظر عن مدى واقعية هذا الطموح، لكن تقدير المخاطر الجانبية والمتغيرات الإستراتيجية ليست وظيفة الجمهور، إنها وظيفة القيادة. يتعرض الكابينت لثلاثة اتجاهات من الضغط للاستمرار في المغامرة، أولها الالتزام بتحقيق رغبة الجمهور منذ مدة طويلة لتحقيق النصر، وثانيها تأثير نتنياهو المحتاج إلى لاستمرار خوفاً من السجن، والثالث هو الأكثر تعقيداً وينبع من ضغط مستوطني الغلاف والجليل، الذين ينصب تفكيرهم على بيوتهم وليست لديهم دائرة تفكير تحيط بالمخاطر الإستراتيجية الداهمة، فهم لا يدركون أن الذهاب حتى النهاية في مغامرة استعادة الردع في غزة قد تعني فقدانه بشكل نهائي لا عودة عنه.

عقدة «الرضوان»
توقف الحرب في غزة يرجّح إلى حد كبير أن يوقف العمليات في الجليل والقصف الصاروخي من اليمن نحو إيلات وكذلك استهداف السفن في باب المندب، لكن تبقى عقدة قوة «الرضوان» واحتمال حصول عملية مباغتة في الجليل على نمط «طوفان الأقصى».
استندت عملية «طوفان الأقصى» إلى تضليل إستراتيجي محكم سمحت به ظروف خاصة بقطاع غزة، حيث اعتقدت الأجهزة الأمنية ونتنياهو من ورائها بأن «حماس» أخلدت إلى الهدنة شبه الدائمة، فتم إهمال المعلومات الأمنية الواردة من القطاع لصالح التحليل السياسي، وجرى إسقاط دلالة المؤشرات الميدانية لصالح تحليل نوايا الخصم، وهذا بالتحديد ما حصل مع ستالين قبيل عملية برباروسا والغزو الألماني للاتحاد السوفياتي عام 1941، كما يشبه إلى حد بعيد ما حصل في العام نفسه في بيرل هاربر.
ساعد في ذلك التصور الخاطئ قيام اقتصاد متبادل بين قطاع غزة وأراضي 1948 بتغطية من نتنياهو وأجهزته، مع تساهل في دخول الأموال القطرية وتفاوض على زيادتها، ورفض «كتائب القسام» المشاركة بشكل فعال في المواجهات التي جرت في غزة بعد «سيف القدس» 2021، ولم تبادر إلى التحدي خلال «مسيرة الأعلام» الحاشدة في القدس.
ليست هناك عوامل وظروف مشابهة في لبنان، فحالة الحذر والترقب على الجبهة الشمالية مستمرة منذ 17 عاماً، كما أن الأجهزة الاستخباراتية الصهيونية لم تهمل عمليات الجمع المعلوماتي في لبنان كما فعلت مع «حماس» منذ عام وأكثر.
تقف العديد من العقبات الواقعية أمام قيام قوات «الرضوان» بعملية مبادرة هجومية في الجليل بشكل ابتدائي أو استباقي، فليس هناك أرض لبنانية محتلة تبرّر حرباً شاملة ولا آلاف من الأسرى، بل مزارع شبعا التي يمكن خوض مواجهات موضعية لتحريرها، فجزء من اللبنانيين، وكذلك قوى إقليمية ودولية، لن يجدوا مبرّراً أن يشعل حزب الله الحرب الوجودية، كما أن الكيان المؤقت حذر بشكل دقيق من إعطاء حزب الله ذريعة لقنص جندي واحد على الحدود، هذا قبل تشرين، وعملياً يلقي ذلك بعبء كبير على قرار حرب عبر الجليل. لكن صدمة «طوفان الأقصى» تسيطر حتى الآن بشكل كامل على العقل الصهيوني القيادي والنخبوي والشعبي على حد سواء.

تحرير قبضة لبنان
حرّرت الحرب في غزة يد حزب الله، وكلما تورط جيش الاحتلال أكثر في حرب غزة واستنزفت صواريخ القبة الحديدية وتراكم الضغط الشعبي العالمي على الكيان المحتل وتراجع الدعم الغربي المعلن، فقد الكيان مشروعيته أكثر فأكثر، وبالتالي ينظر العالم، عدا حلفاء الاحتلال، إلى حزب الله كمنقذ لأطفال غزة، وكذلك أغلب اللبنانيين السنة والشيعة وجزء كبير من المسيحيين والدروز، ولسنا في وضعية مشابهة لعام 2006. الآن ومع فراغ المستوطنات الشمالية وانشغال أغلب القوات البرية النظامية وألوية النخبة في غزة والضفة تتزايد المخاطر في الجليل.

الدور الأميركي
جاءت الأساطيل الأميركية لكن مع حذر شديد من التورط في حرب إقليمية ينساق إليها الأميركي تدريجياً، لأنها تفقده إمكانية السباق الاقتصادي مع الصين مستقبلاً، وستشكل نقطة انحدار مماثلة لحرب العراق عام 2003، وهذا ما يكبّل إلى حد كبير إمكانية تسييل القدرة العسكرية لحماية الكيان المحتل. نتنياهو من جهته ليست لديه مشكلة في تورط أميركا واختلال اقتصادها، فلديه بدائل شرقية وإقليمية، في حال دخلت الولايات المتحدة الحرب وحافظت على وجود الكيان المؤقت وخسرت تريليونات الدولارات.
المخرج الوحيد من هذه المتاهة، والذي يبعد أن يستطيع أحد في الكيان الإمساك بمفاتيحه، بعدما اتضحت حالة الخواء الفكري في تجربة مجمع الشفاء، يبدأ من إعطاء ضمانات لنتنياهو بعدم دخول السجن، ويمر بإعادة بناء تصور أمني واقعي للجليل بعيداً عن تأثير صدمة غلاف غزة، واستعادة النظرة المتواضعة لقدرة الجيش المحتل على مواجهة حزب الله، وإعادة حساب الخسائر التاريخية التي مني بها الكيان المؤقت على الصعيد العالمي.
الجهة الوحيدة التي تملك الرؤية والتماسك للخروج من هذا المأزق هي الولايات المتحدة الأميركية التي يقودها رئيس لم يعد يدرك ما يحصل في التفاوض بين «حماس» والاحتلال، رئيس خائف على وضعه في الانتخابات القادمة وذاهب حتى النهاية وراء دعم الجريمة. ولذلك، فإن الطريق إلى استعادة الردع يقود حالياً إلى تدميره بالكامل، عبر تحرير القدرة الصاروخية الهائلة الكامنة بالانتظار في لبنان واليمن والعراق وسوريا.

* مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير