أَطلق العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي دخل شهره الثاني، وما تخلّله من مجازر وتدمير وحصار، شرارة انقسامات داخل إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، ما برحت تتّسع دائرتها يوماً بعد يوم. فمنذ الأسبوع الأول للعدوان، بدأت موجة الامتعاض حياله تتردّد أصداؤها في دوائر الخارجية الأميركية، وإنْ بقيت بعيدة من الأضواء، وهي تجلّت في قيام عدد محدود من موظّفي الوزارة بمخاطبة رؤسائهم ضمن القنوات الرسمية المعمول بها، لتقديم مذكّرات احتجاج، بعضها اتّخذ منحى المطالبة بممارسة «ضغوط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار»، فيما ركّزت أخرى على ما وصفته بـ»تقديم خطّة جادّة لاتفاق سلام طويل الأمد بين إسرائيل والفلسطينيين، يتيح إقامة دولة فلسطينية، وليس مجرّد التشدّق بالاتفاق كفكرة عامّة». تلك الاعتراضات الداخلية، بدأت تأخذ حيّزاً علنياً مع استقالة مدير الشؤون العامة والكونغرس في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في الوزارة، جوش بول، مروراً بتسريبات صحافية لرسالة مفتوحة، بعث بها، قبل أيام، أكثر من ألف موظّف في «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، إلى وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، وحملت دعوةً إلى البيت الأبيض للدفع نحو «وقف فوري لإطلاق النار» في قطاع غزة، وإعراب الموقّعين على الرسالة، ومن بينهم أكثر من 200 يعملون لدى البعثات الدبلوماسية والإنسانية الأميركية في كلّ من الأردن، ومصر، والضفة، وغزة، عن «قلقهم وخيبة أملهم حيال الانتهاكات العديدة للقانون الدولي (من جانب الإسرائيليين)، بخاصّة تلك المتعلّقة بحماية المدنيين، والأطقم الطبية، والإعلامية، إضافة إلى المدارس، والمستشفيات، ودور العبادة»، وصولاً إلى مذكّرة موقّعة من قِبَل عشرات الموظفين في «الخارجية»، تتّهم بايدن بـ»نشر معلومات مضلّلة» عن الحرب على غزة، وأداء دور «متواطئ في الإبادة الجماعية» الدائرة هناك. ويضاف إلى ذلك، ما تناقلته وسائل إعلام غربية، أمس، عن احتجاج أكثر من 400 من موظّفي وكالات حكومية أميركية على استمرار دعْم الإدارة لإسرائيل في حربها. وفي إطار مساعيه لمعالجة هذه الموجة العارمة من السخط والتي بدأت نطاقاتها تتخطّى أروقة وزارته، لتشمل الكونغرس أيضاً، جاءت رسالة بلينكن إلى مرؤوسيه في كلّ الأقسام، ولا سيما أفراد البعثات الدبلوماسية في الشرق الأوسط، وموظّفو «USAID».
رسالة بلينكن: لماذا الآن؟
بعد تجاهل طويل، واكتفاء بلقاءات لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، بين بلينكن وعدد من مساعديه من جهة، وبعض «المنتفضين» من داخل الإدارة، من جهة أخرى، أقرّ الوزير بوجود خلافات داخل «الخارجية» حول نهج الإدارة الداعم لإسرائيل في حربها على غزة؛ إذ كتب، في مذكّرة أرسلها إلى موظّفيه عبر البريد الإلكتروني، الإثنين، وسرّبتها صحيفة «نيويورك تايمز»: «أعلم أنه بالنسبة إلى كثيرين منكم، فإن المعاناة الناجمة عن هذه الأزمة لها أثر شخصيّ كبير، وإن الألم الذي يصاحب رؤية الصور اليومية للرضّع والأطفال وكبار السن والنساء وغيرهم من المدنيين الذين يعانون في هذه الأزمة أمر مؤلم». وأبدى تفهّمه لشعور الرافضين للسلوك العدواني الإسرائيلي بحقّ المدنيين الفلسطينيين، بالقول: «أشعر بذلك بنفسي». وأضاف: «بعض الأشخاص في الوزارة قد يختلفون مع الأساليب التي نتّبعها أو لديهم وجهات نظر حول ما يمكننا القيام به بشكل أفضل». وفي وقت لاحق لتسريب الرسالة، كشف الناطق باسم الوزارة، ماثيو ميلر، أن بلينكن التقى عدداً من الموظّفين من جميع الرتب ومن مكاتب مختلفة في «الخارجية»، للاستماع بالضبط إلى ما يفكّرون فيه في شأن «سياستنا»، سواء في ما يتعلّق بإسرائيل وصراعها مع حركة «حماس»، أو في ما يتّصل بالمنظّمات الأخرى.
اتّهم موظّفو «الخارجية»، بايدن بـ«نشر معلومات مضلّلة» عن الحرب على غزة، وأداء دور «متواطئ في الإبادة الجماعية»


في التوقيت، جاءت رسالة بلينكن، في أعقاب جولته الشرق أوسطية، التي استغرقت 8 أيام زار خلالها تسع دول، واختتمها بالهند، حيث أكّد أن «عدداً كبيراً من الفلسطينيين قُتلوا» جراء الغارات الإسرائيلية، مضيفاً أنّ بلاده «تريد أن تفعل كلّ ما في وسعها لمنع إلحاق الضرر بالكثير ممَّن عانوا خلال الأسابيع الماضية». كذلك، كرّر الحديث عن «رؤية» واشنطن للوضع في غزة ما بعد الحرب، والتي تميل إلى انخراط الجانب الفلسطيني في إدارة القطاع، وليس إسرائيل، خلافاً للمواقف التي يطلقها رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، الذي أعرب عن رغبة تل أبيب بإعادة «سيطرتها الأمنية» على غزة. ومن جهتها، علّقت صحيفة «واشنطن بوست» على المواقف الأخيرة لبلينكن، مشيرة إلى أنّها تعكس «تطوّر نهج (الوزير) تجاه مسألة ارتفاع عدد الضحايا المدنيين على مدار رحلته الأخيرة»، قائلةً إنّه حثّ القادة الإسرائيليين، خلال زيارته الأخيرة، «بعبارات شديدة اللهجة، وأكثر حزماً، على الحدّ من معاناة سكان غزة». وتبني الصحيفة على هذا التطوّر للقول إنّ «الجهود الإنسانية المتعلّقة بالوضع في غزة باتت مسألة محورية في دبلوماسية الولايات المتحدة تجاه إسرائيل أيضاً». إلا أنه، بحسبها، من غير المرجّح أن تؤدّي رسالة بلينكن إلى التخفيف من حدّة الإحباط لدى موظفي إدارة بايدن، باعتبار أن الأخير لا يمارس ضغوطاً كافية على إسرائيل لمنع قتل المدنيين (الفلسطينيين). ومع ذلك، فإن مسؤولين أميركيين رأوا أنه يُحسب للوزير كونه أَظهر صراحةً في التعامل مع المعارضين داخل الإدارة، خلافاً لزميلته سامانثا باور، مديرة «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تجاهلت رسالة موظّفيها.

الحلفاء ممتعضون؟
جانب آخر، يمكن أن يفسّر «الحيوية» الأميركية المستجدّة حيال مجريات الوضع في غزة، هو ما يحذّر منه محلّلون لناحية الارتدادات السلبية للموقف الأميركي الداعم للعدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، على «مكانة الولايات المتحدة في العالم». وفي هذا الصدد، ترى مصادر غربية أن المساندة التي أظهرها بايدن للإسرائيليين، «تهدّد بإلحاق ضرر دائم بنفوذ واشنطن في المنطقة وخارجها» لسنوات قادمة، فضلاً عن تشجيع ما تسمّيه «تطرّف الشباب الفلسطيني» و»مضاعفة فرص نشوب حرب إقليمية» مع المحور الذي تقوده طهران، مشيرة إلى أنّ الغضب السائد في أوساط الرأي العام العالمي، بفعل التساهل الدولي مع العدوان الإسرائيلي، «يتحوّل بشكل مطّرد في اتجاه الولايات المتحدة، وليس فقط إسرائيل». وتكشف المصادر أن انحياز واشنطن إلى تل أبيب شكّل «مصدراً دائماً للتوتّرات» خلال الجولات التي قام بها بلينكن في عدد من بلدان الشرق الأوسط وآسيا خلال الأسبوع الماضي، مؤكدة أنّ «رؤساء حكومات ودبلوماسيين في تلك البلدان، حمّلوه وإدارته مسؤولية السلوكيات الإسرائيلية، ذلك أن العديد من هؤلاء يتّهمون إدارة بايدن بتشجيع هذه السلوكيات العنيفة، وتسهيلها عبر تمرير الأسلحة الأميركية المرتكبة بها (إلى إسرائيل)، وذلك في موازاة انتقادهم الجهود المبذولة من قِبَل واشنطن، لأنها تهدف إلى الضغط من أجل التوصّل إلى هدنة مؤقتة لأسباب إنسانية، بدلاً من السعي إلى وقف دائم لإطلاق النار، وتصويبهم عليها بوصفها صيغة لاستمرار العنف ضدّ المدنيين».
وانطلاقاً من تلك الاعتبارات، تتابع المصادر نفسها أنّ «قادة عرباً وجّهوا تحذيرات إلى وزير الخارجية الأميركي، من أن واشنطن ستُعتبر متواطئة في التسبب بخسائر في صفوف المدنيين، جرّاء العملية التي تشنّها إسرائيل ضدّ حماس، بلا ضوابط»، مشيرةً إلى أن محادثات بلينكن مع المسؤولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين «شابها التوتّر بسبب عدم اكتراثهم لمخاوف أميركا في شأن سلامة المدنيين في غزة، وإصرارهم في المقابل، على أن عناصر حماس يختبئون في صفوفهم». وتلفت المصادر ذاتها إلى أنّ وزير الخارجية الأميركي واجه الضغوط الدبلوماسية نفسها على هامش مشاركته في «قمّة السبع الكبرى»، التي عُقدت قبل نحو أسبوع في العاصمة اليابانية، طوكيو، حيث وجد نفسه في خضمّ «مباحثات محتدمة ومرتفعة النبرة» لدى لقائه بنظرائه، ومن بينهم مفوّض السياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل، الذي أبدى انزعاجه ضمناً من مقاربة الأميركيين الرافضة لوقف إطلاق النار.