هل فعلاً لدى الإسرائيليين ومن يدعمهم في العالم، على مستوى الأفراد والجماعات، «حقيقة» هم مقتنعون ومؤمنون بها ويدافعون عنها، أم أنهم يعرفون الحقيقة التي يعرفها العالم كلّه، ويمارسون الكذب عمداً ويصرّون عليه باعتباره «الحقيقة»، على أمل أن يقتنع معهم الناس، أو ما أمكن منهم، بذلك؟ الشعب الإسرائيلي، ليس شعباً عادياً ككلّ شعوب العالم. هو شعب مكوّن، بنسبة كبيرة، من أبناء وأحفاد قادة العصابات الصهيونية وعناصرها، الذين هاجروا إلى فلسطين في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، بالإضافة إلى المجموعات التي انضمّت لاحقاً إلى الدولة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1989، ورفعت عدد سكّان إسرائيل من اليهود بصورة ملحوظة. وبالتأكيد، ستكون بيوت هؤلاء مليئة بصور آبائهم وأجدادهم المباشرين الذين كانوا أعضاء في عصابات مثل «الأرغون» و«الهاغانا» وغيرهما، وارتكبوا المجازر بحق الفلسطينيين. وبالتالي، فإن ما يجري اليوم في غزة، هو صورة لتفوّق الأبناء والأحفاد على الآباء والأجداد في الوحشية والإجرام. ولا يعود غريباً، في هذه الحالة، أن يكون ثمّة «إجماع» يُحكى عنه في إسرائيل على دعم تلك الحرب المتوحّشة، على رغم أن أيّ فرد سويّ لا يمكن أن يقبل بمشاهد أطفال يُقتلون أو مستشفيات تُقصف، حتى لو كانوا في دولة معادية.من غير الصحيح مقارنة الإسرائيليين بمن استوطنوا أميركا أو أستراليا، مثلاً، واضطهدوا سكّانهما الأصليين، رغم التشابه في مسألة الإحلال والاستيطان، ورغم أن جزءاً ممّن هاجروا إلى هاتين الدولتين، فعلوا ذلك هرباً من الاضطهاد الديني في أوروبا في ذروة الخلافات بين الكنائس المسيحية في القارة، ولا سيما في بريطانيا. لكنّ ثمّة جزءاً آخر من المهاجرين إلى أميركا أو أستراليا، وهو الأكبر، مكوّناً من باحثين عن فرص أو فارّين من العدالة من أفراد المافيات الإجرامية العادية الذين بحثوا عن ملاذات وحياة جديدة في البلاد التي حجّوا إليها. وحتى الذين اضطُهدوا دينياً، لم يكونوا من فئة واحدة، ولا يجمع بينهم رابط واحد، كذلك الذي جمع بين المهاجرين إلى فلسطين، وهو العقيدة الصهيونية. كما أن تلك البلاد، رغم طغيان الطابع المسيحي عليها، ورغم تفشّي العنصرية فيها، ليست مبنيّة على أسس دينية أو عرقية، وليست طاردة بالكامل لمن هم من أديان وأعراق مختلفة.
إسرائيل، في المقابل، دولة من نوع خاص، لها «حقيقتها» الخاصة التي تحاول إسنادها بدعاوى توراتية في أرض فلسطين، ولا تقبل الآخر. والآخر الوحيد المفروض عليها هو الفلسطيني، سواء كان من أراضي 1948 أو 1967، والحلّ الوحيد له في عقيدتها هو الطرد والرفض والقتل. أمّا سكان فلسطين المحتلة الباقون فهم كلّهم من المهاجرين اليهود. ولذلك، يغدو ممكناً بالنسبة إلى الإسرائيليين الحديث عن التضامن العالمي المتزايد مع معاناة الفلسطينيين باعتباره ناتجاً من «تضليل»، وباعتباره «ظاهرة مقلقة ومنذرة بالخطر»، وأن من يدعمون «حماس» بوصفها رمزاً للمقاومة الفلسطينية «لا يعرفون عقيدتها المتطرفة التي تدعو إلى تدمير اليهود والمسيحيين والعالم الغربي»، بحسب قول الكاتب الإسرائيلي، بن درور يميني، في مقالة رأي كتبها في «يديعوت أحرونوت»، واعتبر فيها أن 90% من المشاركين في التظاهرات ضدّ إسرائيل في الغرب «ليست لديهم فكرة حقيقية عن أجندة حماس». وفي بحثه عن الأسباب، يخرج باستنتاجات غريبة منها «الهوس بأن الضعيف دائماً على حق، حتى لو كان قاتلاً، والقوي دائماً شرير».
رفع ثمن البقاء بالنسبة إلى الإسرائيليين، يمكن أن يؤدّي في النهاية إلى إقناعهم بعدم جدوى هذا البقاء


أكثر ما يجعل «الحقيقة» التي يريد الإسرائيليون للعالم أن يقتنع بها، تظهر على زيفها، هو التطور الكمّي والنوعي في نظرة الجيل الشاب من اليهود في الغرب إلى الدولة العبرية. قبل ذلك، كان ثمّة يهود معارضون للصهيونية، لكنهم يمثّلون نخباً فكرية، لا أوساطاً عامة من الناس. ولذا، كان سهلاً على إسرائيل عزلهم في الغرب. ومن بين هؤلاء مثلاً، بيتر بينار ونعوم تشومسكي وجوديث باتلر وآفي شلايم وشلومو ساند، الذين يشتركون في القول إن فكرة «الشعب اليهودي» تمّ اختراعها في نهاية القرن التاسع عشر، وإن سبب الصراع مع الفلسطينيين هو الاحتلال، ولا شيء آخر.
الموضوع بات مختلفاً كثيراً الآن. فحرب غزة أدّت إلى نقلة كبيرة في أوساط اليهود في أميركا نحو مناهضة الممارسات والسياسات الإسرائيلية. والمنظمات التي تحرّك الاحتجاجات في الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب، وخاصة في الجامعات، تضمّ جماعات يهودية معادية لإسرائيل، يسمّي «المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين» (بديل) من بينها: «الصّوت اليهودي من أجل السّلام»، و«على اليهود قول كلمة لا!»، و«يهود من أجل حق العودة للفلسطينيين»، و«شبكة اليهود العالمية المعادية للصهيونية». وظهرت أخيراً مجموعة جديدة تحمل اسم «إن لم يكن الآن». وبحسب «بديل»، يشكّل الجيل الجديد من اليهود النسبة الكبرى في هذا التحول، وفق ما يُظهِره مسح شمل سكّاناً يهوداً في الولايات المتحدة السنة الماضية، إذ انخفضت بشكل كبير نسبة أولئك الذين يعتبرون أنفسهم «متعلّقين بإسرائيل»: 38% من اليهود ممّن تتجاوز أعمارهم 65 و25% ممّن تراوح أعمارهم بين 18 و29.
أهمية هذه الصحوة أنها تساهم بشكل كبير في نزع «شرعية» تمثيل الحركة الصهيونية لليهود في العالم. ولكنّ تحرّكها ليس أخلاقياً فحسب، بل ينطلق كذلك من مصلحة، لأن ما تقوم به إسرائيل باسم اليهود، يرتدّ في جانب منه على هؤلاء أنفسهم، أما الحقيقة، حقيقة الجميع، فيعرفها معظم الإسرائيليين، كما يعرفون أنهم يعيشون على كذبة وأنهم يدافعون عن كذبة. ولذا، لا يوجد حافز كبير لدى الجندي الإسرائيلي للقتال رغم كلّ الأسلحة المتطوّرة المسخّرة له. ولأن الفلسطيني يدافع عن حقيقته، فإنه يقاتل حتى النهاية رغم عدم توفّر سوى أسلحة متواضعة له. ومن هنا أيضاً، بدت إسرائيل آيلة إلى السقوط في السابع من تشرين الأول، ولا تملك الروح القتالية الضرورية للدفاع عن نفسها، وتحتاج إلى تدخّل مباشر من الولايات المتحدة والغرب اللذيْن تُحرِّك سلطاتهما الحركةُ الصهيونية نفسها، لإنقاذها. وعليه، يمكن الرهان على أن رفع ثمن البقاء بالنسبة إلى الإسرائيليين، يمكن أن يؤدّي في النهاية إلى إقناعهم بعدم جدوى هذا البقاء.