خاضت غزة وحركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى عدّة حروب مع الكيان المؤقّت منذ تحرّر قطاع غزة عام 2005، وفي النهاية استنتجت دوائر التقييم الأمني، في «الشاباك» بالدرجة الأولى وفي شعبة «أمان» بالدرجة الثانية، أن «حماس» انتقلت إلى مرحلة جديدة: مرحلة الهدنة الطويلة. وردت مؤشرات ميدانية مكثّفة إلى الاستخبارات، بحسب مقابلات جرت مع جنديات المراقبة في المواقع المنتشرة حول الغلاف، لكنّ تقييم «الشاباك» للنوايا السياسية لقيادة «حماس» تغلّب على تلك المؤشرات الميدانية. لربما كانت الرغبة بتحييد «حماس» وعدم الدخول معها في مواجهة، خلال السنوات الماضية، قد سيطرت على العقل الأمني اليهودي.
الصدمة التي تلقّاها الجهاز الأمني للكيان صباح السابع من أكتوبر، أخرجته من حالة الوهم الطويل التي عاشها، والناتجة عن فشل عميق في فهم التركيبة النفسية والثقافية للحركة وقيادتها ولأهل القطاع، وكذلك في مراقبة ومتابعة حركة التسلّح الضخمة الجارية في القطاع، لكن فات القطار على معالجة الخلل، فقد أخذت «حماس» الوقت الكافي لتتسلّح وتتجهّز للمواجهة الكبرى الجارية حالياً.
بمعلومات ضعيفة أو مشتّتة وغير خاضعة للتقييم والدرس، ومع إهمال تراكمي من قبل الوحدة 8200 لجمع المعلومات التقنية عبر القطاع، نتيجة التوجه السياسي نحو تحييد «حماس»، تدخل الآن قوات جيش الاحتلال إلى غزة. حاول المحقّقون من «الشاباك» جمع المعلومات من أسرى «حماس» الذين جرى اعتقالهم في الغلاف بعد العملية، لكن حتى الآن لا دليل على وجود المعلومات «الثمينة» و«الذهبية» التي كان يجري الترويج لقدرة «الشاباك» على امتلاكها في السابق.
جهاز التقدير الغارق في الفشل حتى أذنيه، والمضطرب حتى النخاع نتيجة الصدمة، والذي قال البعض في الكيان إنه لم تعد هناك حاجة إليه، واقترح إعادة النظر في وجوده وتركيبته بعد الحرب، هو الذي تولّى مهمة توفير المعلومات للقوات الغازية.
انتقل التحدي المعلوماتي من المستوى الإستراتيجي إلى المستوى العملياتي والتكتيكي، الآن تحتاج القوات الغازية إلى معرفة مكان المقاتلين في الأزقة والغرف والأنفاق والركام الموزّع في القرى والمدن. المقاتل البعيد عن الهاتف، والمندمج في البيئة الحضرية، والمختفي بين الركام، والمتسلّل عبر شبكة أنفاق لا تنتهي وتمتد تحت القطاع بأكمله، يحتاج البحث عنه واكتشافه إلى قوات استطلاع، لا تفيد في هذه المواجهة أجهزة التجسس والاستخبارات.
شرح الجنرال ديفيد بترايوس، خبير حرب المدن في الجيش الأميركي، طبيعة التحديات التي تقف أمام مهمة جيش الاحتلال، فهو بنظره يحتاج إلى «اجتياح وتطهير كل مبنى وطابق وغرفة، وهذا أيضاً لا يكفي فعليه بعد ذلك إبقاء جندي في كل شارع لضمان ألا يعود المقاتلون إليه»، واعتبر أن «مهمة إسرائيل في قطاع غزة صعبة للغاية وستكون خسائرها باهظة وهي أصعب مهمة يمكن أن توكل إلى جيش على الإطلاق».
تُسمى هذه العمليات في علم «مكافحة التمرد» عمليات البحث والنكش، إذ تحتاج إلى آلاف الإجراءات الجزئية التي تطاول الأحياء والبيوت والأزقة، ولا يمكن القيام بهذا النوع من الإجراءات عبر تسيير الدبابات... هي عملية تقوم بها قوات المشاة، وهي عمليات مضنية ومرهقة وتحتاج إلى اندماج في البيئة الاجتماعية بحيث تستطيع قوات «مكافحة التمرد» جمع المعلومات، وعلى أساسها يتم العمل لتخفيف التكلفة في الأرواح. يجري شيء مماثل لذلك في الضفة، حيث كان التنسيق الأمني يوفّر المعلومات لجيش الاحتلال وقواته الخاصة للقيام بالعمليات. سكان القطاع اليوم هم أعداء، أكثر من أي وقت مضى منذ عام 1948، بسبب الجرائم الفظيعة التي ارتكبها سلاح الجو بحقهم، ويمثّلون بيئة مقاومة متكاملة، لناحية توفير المعلومات للمقاومين، أماكن الإيواء والتنقل، وكذلك خزانٌ بشري للمقاتلين عند الحاجة.
غاب عن الجهاز الأمني كذلك، مقدار الجهوزية القتالية والتسليحية للمقاومة في غزة، خصوصاً أن العملية البرية ليست جديدة، وهي تكرار من حيث الأسلوب ومداخل التقدّم للمحاولات البرية السابقة في القطاع، وربما لم يكن متصوّراً تطور الصناعات التسليحية للمقاومة حيث تملك عدداً غير معروف حتى الآن من قذائف «الياسين» المضادة للدبابات، والتي تُعد المضاد الحيوي للغزو البري، والتي تُستخدم الآن بفعالية مبهرة في شوارع القطاع.
المغامرة غير المحسوبة التي دخلها الجيش، تمثّل عملية انتحارية، اضطرت القيادة السياسية والعسكرية للكيان لتنفيذها، تحت ضغط الاختبار الوجودي الذي تعرّضت له الدولة المصطنعة صباح السابع من أكتوبر. لكنّ النتائج الشديدة الغموض لهذه العملية، تتناقض مع الخطابات المليئة بالرغبوية والوعود الشعبوية الكاذبة لنتنياهو وغالانت وغانتس.
فرضية الهزيمة التي تنبّأ بها بترايوس وجميع الخبراء العسكريين من أصدقاء وأعداء الكيان غائبة كلياً عن التداول


الكذب على الذات هو المشكلة الأكثر عمقاً للجهاز الأمني الصهيوني اليوم، بالموازاة مع رفض تصديق أن أهل غزة استطاعوا اجتياح أراضيهم المغتصبة، وتفكيك فرقة عسكرية كاملة خلال ساعة ونصف ساعة، كذلك يرفض الجهاز الأمني تصديق أن النتائج الكارثية للمغامرة قد بدأت تطل برأسها. إذا كان توقع النصر هو الذي يحكم التصورات والافتراضات الإستراتيجية للقيادة الصهيونية وجهازها الأمني، فإنّ كل الافتراضات الأخرى سيصيبها الخلل. يُبنى كل شيء اليوم في الخطاب العام في الكيان على أساس حتمية النصر، ولربما يدخل تصور نتنياهو لمستقبله السياسي هنا في الحسبان، لعل مخيلته تصوّر له أنه سيكون القائد المنتصر في هذه الحرب، المخلّص الذي سينقذ الكيان من الكارثة، وبذا قد يُكتب له عمر سياسي جديد.
بناءً على مجموع هذه الهفوات والفجوات في الوعي، يتم سوق الجنود إلى حتفهم في غزة، وتساعد الدوافع الفاسدة لنتنياهو على تجاوز حذره المعتاد، فيستمر في التعهد بتحقيق النصر في خطاباته ورسائله، وبناءً على هذا التصوّر وتحت زخم دوافع الانتقام وجنون العظمة الناتج عن التدمير من الجو، يوزّع الجهاز الأمني والقيادة الصهيونية التهديدات يميناً وشمالاً، ويساعد في ذلك الحضور الأميركي والأوروبي المتزايد في المنطقة. ذلك الحضور الحذر والقلق من التورط في حرب تبدأ ولا تنتهي، ويمكن أن تصل تكلفتها إلى ما يقارب عشرة تريليونات دولار، لن تتحملها الاقتصادات الغربية التي تنوء تحت وطأة الأزمات المختلفة.
تم تحييد فرضية الهزيمة كلياً، في الخطاب الإعلامي والسياسي، وتمارس الرقابة العسكرية تقييداً هائلاً على السردية الميدانية، لمنع الإعلام والمراقبين من إخراج المجتمع الصهيوني من حالة الكذب على الذات. فرضية الهزيمة التي تنبّأ بها بترايوس وجميع الخبراء العسكريين من أصدقاء وأعداء الكيان، غائبة كلياً عن التداول.
لا يمكن للقيادة بالطبع أن تدعو المجتمع إلى إرسال الجنود إلى ميدان المواجهة المباشرة إلا بخطاب مليء بالثقة، لكنّ هذا الخطاب تحديداً هو الذي سيؤدي إلى استمرار هذه المغامرة غير المحسوبة، وتحوّلها إلى كارثة تفوق كارثة السابع من أكتوبر. في ذلك الصباح، كان الجميع غارقين في النوم، تمّت مباغتتهم على حين غرّة، لكن اليوم حشد الكيان المؤقّت كل جيشه، وخلفه الأساطيل الغربية، والدعم المالي والتسليحي الأميركي المتدفّق، مع تعبئة عنصرية غير مسبوقة نحو الانتقام، ومع تدمير هائل وجرائم لا تنتهي بهدف ترويع السكان والمقاومين، وتخطيط وتحضير لمدة شهر كامل بمساعدة الخبراء الأميركيين والأوروبيين للدخول إلى الميدان، والهزيمة الآن ستأتي بنتائج مختلفة كلياً، ليست هزيمة أمنية استخباراتية فقط، بل تظهير كامل لعجز الجيش الصهيوني عن القتال وهو في ذروة اندفاعه وتحشُّده.
الرغبة العارمة التي سيطرت على عقل الجهاز الأمني ودفعته نحو النظر إلى «حماس» من منظار الهدنة الطويلة، والاستخفاف بالمؤشرات الميدانية، تماثل الرغبة العارمة بالانتقام وجباية الثمن و«سحق حماس»، وهي التي تدفع الجهاز نفسه والقيادة نفسها الآن إلى الاستخفاف بالكارثة القادمة، والكذب على الذات سوف ينتهي عندما يصبح عدد الدبابات المصابة والمعطوبة مماثلاً لعدد الدبابات المتبقية للمواجهة في غزة، وعندما تنكسر الرقابة العسكرية، أداة حراسة الكذب على الذات، تحت وطأة الضغط المتواصل للعمليات التي تبث بشكل شبه حي من أزقة غزة المباركة.

* مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير