لا أدري إذا كان فرانتز فانون في تحليله المدهش لتأثير النظام الاستعماري النفسي في ضحاياه قد تناول موضوع الكذب، والذي دائماً ما أحاط به هذا النظام ما فعله (ويفعله) في مستعمراته في ربوع الأرض. ولعل كذبة «نشر الحضارة»، أي mission civilisatrice، هي أكثر هذا الكذب رواجاً. لكن اتضح لمؤرّخي المجتمعات الخاضعة لذاك النظام أن التجهيل المتعمد كان هو المقصود، وأن ما خلقه الاستعمار من مؤسسات تربوية هزيلة كانت ترمي إلى خلق نخبة تُماشي هذا الاستعمار وتهلّل له. أما الاستعمار البريطاني الذي نهب الهند مثلاً على مدى قرون من الزمن، فقد أتحفنا الشاعر رديارد كبلنج بقصيدة بعنوان «عبء الرجل الأبيض» White Man‘s Burden، يحثّ فيها الأميركيين على استعمار الفلبين، فهم أناس «نصفهم أبالسة ونصفهم أطفال».حين قررت الحركة الصهيونية استعمار فلسطين في تلك المدة نفسها، أي أواخر القرن التاسع عشر، والتي راجت فيها أكاذيب الاستعمار الغربي، من المدهش حقاً أن نجد أنّ هذه الحركة التقطت وبسرعة لافتة ما سبقها إليه ذلك الاستعمار، فكانت الكذبة الأولى هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، التي يبدو أنها صيغت أولاً من جانب مبشّرين إسكتلنديين، وتبنّاها لاحقاً صهاينة مثل إسرائيل زانجول وحاييم وايزمان. لكن ما إن اصطدم هذا الكذب بالواقع، حتى تغيرت الكذبة، فأصبحت في يدَي ثيودور هرتزل كذبة «الصحراء المزدهرة»، ومن دون الإشارة طبعاً إلى أن الازدهار مقصور على اليهود فقط.
أتقنت الحركة الصهيونية فن الكذب طوال القرن العشرين وصولاً إلى عام النكبة، فقد نشرت حولها غيمة هائلة الحجم من الأكاذيب التي كانت السينما والأفلام الوثائقية إحدى أهم وسائل إيصالها إلى الجمهور الغربي: مجتمع يهودي عصري يردّ الحياة إلى الأرض اليباب، مقابل مجتمع عربي بدوي بدائي لا جذور له في تلك الأرض.
بلغ فن الكذب إحدى قممه في أعقاب نكبة عام 1948، حين طُرد حوالى 700 ألف فلسطيني من ديارهم. ولما بدأت بعض الأصوات المتعاطفة مع مأساتهم تُسمع في الغرب، سارعت الماكينة الصهيونية إلى اختراع كذبة «الأوامر التي صدرت لهم بترك منازلهم» من جانب الدول العربية، كي يُلقى اللوم على المحرّض المزعوم وليس على المجرم. لم تزل هذه الكذبة تُسمع من حين إلى آخر في يومنا هذا، حتى بعد أن فنّدها بالكامل مؤرخ فلسطيني، ثم لاحقاً «المؤرخون الجدد» في إسرائيل ذاتها.
وإذ أحست الماكينة الصهيونية على مرّ الأيام أن العالم قد بدأ يتململ من عدم وجود أي مفاوضات جدية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، جاء وزير خارجيتهم أبا إيبان (واسمه في الأصل أوبري إيفانز) ليطلق شعاره الرنان المستوحى من «عبقرية» ونستن تشرشل في صياغة الشعارات «لا يضيّع الفلسطينيّون فرصةً لتضييع الفرص». والمغزى أننا نحن الإسرائيليين نمد لهم يد التفاوض دوماً، ولكن لا نجد من نفاوضه في صفوفهم، وهذه الكذبة رائجة جداً في هذه الأيام.
وحين نصل في التسعينيات إلى عصر الإنترنت، وما تبعه من انتشار هائل في وسائل الاتصال الاجتماعي، نجد أن منظومة الكذب الصهيوني وجدت أمامها حقلاً يمتد نحو اللانهاية من التحكم في سرد الأحداث الجارية، والذي يُطلق عليه اسم «هزباره» بالعبرية، وهي كلمة مُلطّفة للكذب وتعني التأويل. وإذ بنا نكتشف أن منظومة الكذب التقليدية قد أضحت اليوم صرحاً أساسياً من صروح إسرائيل يعمل فيه عدة مئات من الموظفين وترفده ميزانية بعشرات ملايين الدولارات. ما هي هذه «الهزباره»؟
هي باختصار التحكم التام في سرد ما يحدث، ونبذ كل ما ينفيه أو يعارضه من سرديّات، وذلك عبر استخدام لا مثيل له من الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، وترويض شبكات التواصل الاجتماعي ومحطات التلفزة الغربية للقبول فقط بسردية إسرائيل لا غير. وهذه «الهزباره» لا مثيل لها في أي دولة في العالم، بما في ذلك إسرائيل الكبرى، أي الولايات المتحدة الأميركية.
ينبغي أن تفخر إسرائيل أنها أضافت الكذب إلى الفنون الأدبية السبعة التاريخية، أي النحو، والمنطق، والبلاغة، والحساب، والهندسة، والموسيقى والفلك. وما إن هبّ مقاتلو «حماس» لتحطيم القيود، حتى اشتعلت «الهزباره» ترسل السرديات في شرايين التخاطب الغربي كافة. وكان أول ما صادفنا من تلك السرديات قطع رؤوس الأطفال، ثم لاحقاً اغتصاب جثث النساء. وجاء ذلك المحنّط واسمه جو بايدن ليقول أولاً إنه يصدق قطع رؤوس الأطفال ثم يتلعثم لاحقاً، لا ليلقي الشكّ على الأمر، بل فقط ليقول إنه «لم يشاهد الدليل على ذلك»، فيترك الكذبة معلقة في الفضاء، وهذا بالضبط أحد أهداف فن «الهزباره» البارع في إتقانه.
لا يهتم هذا الفن بالدليل، فالدليل قد يجر الكاذب إلى المحكمة. المهم أن نأتي بسردية متناسقة برّاقة سهلة الاستيعاب وكأنها وليمة سريعة يلتهمها الجائع في الطريق.
-«إنهم حيوانات بشرية»: كلا لم يقصد أهل غزة، بل «الإرهابيين» فقط.
-«إنهم هم أنفسهم من قصفوا المستشفى المعمداني». «حماس»؟ لا فصواريخها حتى الآن تجد طريقها إلى إسرائيل، فلنعتمد إذاً «الجهاد الإسلامي». ويأتي المحنّط ليؤكد لضيوفه أن «الجانب الآخر» هو على الأرجح من فعلها، ويثني عليه ذاك البريطاني الذي لا أثر لجذوره الهندية النضالية، فيجزم في مجلس العموم أن المخابرات البريطانية قد تبين لها أن الصاروخ داخلي. قل لي: أين ومتى وكيف يا سيد سوناك؟ «الهزباره» ستُبقي على هذه السردية، حتى لربما يفضحها في المستقبل البعيد طيارٌ إسرائيلي استفاق ضميره بعد طول سبات، بل يبدو أن صحيفة «نيويورك تايمز» قد بدأت تشكّك بصدقيتها. لا بأس، دعها معلقة في الهواء وسهلة التناول.
ومن بين تلك السرديات ما نسمعه دوماً أن إسرائيل لا تبادر، بل هي دوماً ترد. من هنا تسمية جيشها «جيش الدفاع»، ولعله من بين أكثر الأسماء سخريةً في تاريخ الشرق الأوسط. ويتبع ذلك شعار «الجيش الأكثر تمسكاً بالأخلاق في العالم»، وهو شعارٌ ساد لمدة قصيرة ولكنه لم يُؤتِ ثماره كما يجب، فعُلِّق مؤقتاً.
حققت «الهزباره» أحد أهم نجاحاتها في الغرب في المدة الماضية عبر تقبل مقولة «العداء للصهيونية هو العداء للسامية»، ودخلت هذه المقولة في صلب سياسة بعض الدول الأوروبية، بل وفي صلب قوانينها الجنائية. لكن مهلاً: ماذا عن الجماعات اليهودية التي تنتقد ما يحدث في غزة اليوم؟ هؤلاء هامشيون وممن «يكرهون أنفسهم».
ثم تتحفنا «الهزباره» بمقولة: «حماس» هي «داعش» وهي جذّابة جداً. فتأتي المسنّة يوشيفيد ليفشتز لتقول إن رجال «حماس» أحسنوا معاملة سجنائهم، فيُصاب الرأي العام في إسرائيل بصدمة عنيفة. أحد صواريخ «الهزباره»، ويا للأسى، قد سقط على رؤوس أصحابه. لكن لا بأس، فقد ننصبه لاحقاً في مناسبات أخرى.
وماذا عن قصف المستشفيات ودور العبادة؟ من «الهزباره» نكتشف أن «حماس» بنت تحتها شبكة من الأنفاق تجعلها هدفاً مشروعاً. الدليل، يا صاح، وقد أصبحت معظمها ركاماً وأساساتها ماثلة للعيان؟
وماذا عن إيصال المساعدات الإنسانية الذي أضحى الآن مطلباً تبنّته الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الإنسانية؟ «الهزباره» هنا في مأزق قد يتعاظم، فعليها أن تجيد الفن. يأتي الجواب الأول: قد تستولي عليها «حماس». لكن هذا لا يشنف الآذان كثيراً بسبب التردد الذي فيه، فتأتي «الهزباره» فيما بعد بالجواب الشافي: «حماس» تملك أطناناً من الوقود، فلتعطِها للأهالي. لذا، ورغم كل ما حدث، تزعم «الهزباره» أنها تعرف كل ما يحدث في غزة، مع الاعتذار طبعاً عن الإخفاق الاستخباراتي الشنيع.
هذه أمثلة قليلة عابرة يستقيها كل من يقبع أمام شاشات التلفزة في هذا «الليل الطويل للروح»، كما أسماه القدّيس الإسباني يوحنا الصليب. ولا يملك المرء سوى الإعجاب لما أنجزته «الهزباره» من إضافة الكذب إلى الفنون السبعة. لكن مهلاً يا صاحبي «الهزباري»: كلما انفجر صاروخ من صواريخك، كلما ازداد السأم دولياً من فردية سردك، فـ«الهزباره» هي أنجع ما تكون على المدى القصير، ولكنها تبدأ بالتصدع على المدى الطويل، فليس في إمكانها أن تُخفي التناقضات التي تواكبها حُكماً، ثم يتوق المتلقي أن يسمع نبرةً أخرى على هذا العود أو المزمار. أجل، إن الصاروخ الذي تحطم قد يترك وراءه رائحةً في الفضاء ولمدة إضافية، ولكن كثيراً ما تتبدد تلك الرائحة بسبب كثرة استخدامها. من هنا، إن المدى الطويل وفردية السرد وكثافته هما ألدّ أعداء «الهزباره».
كيف نتعامل مع «الهزباره»؟ على كل من توجد في قلبه فلسطين صغيرة، ومن يُجيد استخدام الإنترنت، أن ينطلق «زُرافات وَوُحدانا» إلى مجابهة هذا «القصف الهزباري». المعركة هنا لربما هي في أهمية المعركة الأخرى، وهي على كل حال سهلةٌ نسبياً. فهي كما رأينا أعلاه قابلة للتصدع مع مرور الزمن وعبر استخدامنا المنطق والسخرية معاً. فلنعثر سريعاً على الثغرات العديدة في السياج «الهزباري» ولندخل من عبرها إلى أرض الحق.

*مؤرخ