تمضي الجريمة المنظَّمة في المناطق المحتلّة في عام 1948، في سياقٍ تصاعدي، حاصدةً في طريقها أكثر من 600 ضحية في الأعوام الخمسة الأخيرة، فيما ارتفع عدد الضحايا في هذه السنة فقط إلى ما يزيد عن 170. تصاعدٌ يثير الكثير من التساؤلات حول حقيقة هذه الظاهرة التي لم تكن ضاربة الجذور في بنية المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتلّ، لا بل إن هذا المجتمع بقي لسنوات طويلة يعيش حالة لُحمة يحفّزها الهمّ الوجودي الذي ولّده الاحتلال. لكن منذ عام 2003 بدأ التحوّل، وذلك عندما قرّرت دولة الاحتلال استئصال الجريمة المنظَّمة في الوسط اليهودي، لتتمكّن، في خلال 10 سنوات، من إغلاق هذا الملفّ بعد أن فكّكت «المافيا» الإسرائيلية، واعتقلت أفرادها وقادتها وألقت بهم في السجون. في هذه اللحظة التاريخية فقط، بدأت تَظهر وتتشكّل العصابات المنظَّمة في الوسط الفلسطيني، آخذةً على عاتقها جزءاً من المهمّات التي كانت تقع على كاهل «المافيا» اليهودية، وصولاً إلى الواقع الحالي الذي لا تتجرّأ فيه تلك العصابات على تجاوز الخطوط الحمر التي رسمها «الشاباك»، ممتنعةً عن قتل أيّ إسرائيلي مهما كانت الأسباب، فيما قتْل الفلسطيني متاح ومحميّ من قِبَل أجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو ما بات يشكّل كابوساً متضخّماً يدفع كثيرين إلى حزم حقائبهم للهجرة.ويتمحور الصراع المسلّح بين عصابات الإجرام في أوساط فلسطينيّي الداخل، حول بسط السيطرة على الكثير من الأنشطة غير المشروعة. إذ تشير التقارير الإعلامية إلى أنه منذ نمت الجريمة المنظّمة في ظلّ الواقع الاستعماري المفروض على الفلسطينيين، وازدهرت في السنوات الأخيرة، خلّفت وراءها سوقاً بمليارات الدولارات، يشمل الكازينوهات، والإتجار بالأسلحة والمخدرات، وتقديم القروض كبديل من قروض البنوك وفوائدها المرتفعة، وصولاً حتى إلى القيام بعمليات غسل أموال في دول في الخارج كالإمارات وتركيا، عبر شراء العقارات فيها، وكذلك إنشاء شبكة من التجارة البينية. أمّا مِن أين يأتي أعضاء هذه العصابات، فلعلّ الإجابة على ذلك تكمن في تقرير رسمي صادر عن مؤسسات الاحتلال لعام 2021، يشير إلى أن 39% من فلسطينيّي الداخل يعيشون تحت خطّ الفقر، وأيضاً في تقرير مفصّل صادر عن «مركز أهارون للسياسات الاقتصادية» يفيد بأن 70% من الطلاب العرب لا يستكملون دراستهم الثانوية، وأن 40% منهم لا يعملون، موضحاً أن تفشّي ظاهرة عدم استكمال التعليم المدرسي مرتبط بالسياسة الاستعمارية التي تستثمر في التعليم لكلّ تلميذ عربي 120 دولاراً سنوياً، مقابل 400 دولار للتلميذ اليهودي.
ثمّة بيئة خصبة لنموّ عصابات الإجرام، تعمل المؤسّسات الأمنية الإسرائيلية على تغذيتها وتوفير شروط بقائها


بالنتيجة، ثمّة بيئة خصبة لنموّ عصابات الإجرام، تعمل المؤسّسات الأمنية الإسرائيلية على تغذيتها وتوفير شروط بقائها. ففي تقرير بثّته «القناة 12» العبرية في عام 2021، يرد، نقلاً عن مصدر رفيع في شرطة الاحتلال، أن «المجرمين يتعاونون بمعظمهم مع جهاز الشاباك»، وهذا ما يحيل إلى تصريحات لرئيس «الشاباك» السابق، أفي ديختير، الذي توعّد، بعد يومين من «هَبّة الأقصى» في الداخل (2000)، أهالي الـ48 بـ«(أنكم) ستدفعون الثمن». وبينما لا يزال الأهالي يدفعون الثمن إلى اليوم بالفعل، وعلى الرغم من تصاعد حدّة الجرائم ضدّهم، وتزايد أعداد ضحاياها، إلّا أن مؤسّسات الاحتلال لا تزال تصرّ على جني الثمن منهم مقابل التدخّل لتفكيك منظّمات الإجرام. إذ إن كلّ الوعود التي أطلقتها الحكومات الإسرائيلية بوقف الجريمة، كانت تخفي في طياتها شروطاً تتعلّق بتقديم الولاء لدولة الاحتلال، عبر تفعيل الخدمة المدنية للشباب الفلسطيني في المؤسّسات الإسرائيلية كبديل من الانخراط في الجيش، في ما يمثّل طريقاً مرسوماً للأسرلة التي خرج منها فلسطينيّو الداخل منذ أكثر من ثلاثة عقود، لتضحي مطالبهم مرتبطة بهويّتهم الوطنية الفلسطينية.
وإلى جانب محاولات الأسرلة تلك، تنضمّ النظرة الاستعلائية الاستشراقية إلى العرب، والتي يعبّر عنها بوضوح قول المفتش العام للشرطة، كوبي شبتاي، في معرض تعليقه على تصاعد الجريمة: «لا يمكن فعل شيء حيال ذلك. إنهم يقتلون بعضهم، إنها طبيعتهم، هذه هي حقيقة العرب». تصريحٌ يختصر العقل الاستعماري الصهيوني، الذي لا يريد أيّ وجود فلسطيني في مناطق الـ48، وهو ما يحفّزه على خلق أجواء الجريمة المنظّمة، وجعْل حياة الفلسطينيين لا تُطاق، ورعاية المجرمين الذين يبقون أحراراً طلقاء، يعيشون حياتهم في كنف الاحتلال، ويزوَّدون بالسلاح والذخيرة وتُتاح لهم حرية الحركة والتنقّل. وفي مقابل ذلك، لا يزال فلسطينيّو الداخل يعيشون هول الواقع، فيما لم تستطع كلّ قواهم السياسية والمجتمعية والمدنية اجتراح حلول لتلك المحنة. لكن الأكيد أن التجربة علّمتهم أن ثمن المواجهة مع المحتلّ أقلّ كلفة من كلّ الخطط التي ترسمها وتنفّذها سلطات الاحتلال، ولهم في النكبة عِبرة، ومَن تجاوزها فقد اعتبر.