رام الله | على توقيت القدس و"سيفها المسلول"، تقف المنطقة على حافّة التأهّب والترقّب، قبل ساعات فقط من "مسيرة الأعلام" الاستفزازية التي تنوي جماعات "الهيكل" المزعوم والمؤسّسات الاستيطانية تنظيمها في مدينة القدس المحتلّة، في ذكرى احتلالها. وإذا كان قرابة 200 ألف مستوطن سيشاركون في المسيرة، فإن عيونهم وقلوبهم ستكون معلّقة بقطاع غزة، بينما تَحضرهم مشاهد عام 2021، حينما كانوا يخترقون أحياء البلدة القديمة في المدينة، ويستفزّون الأهالي ويعربدون، قبل أن يتفرّقوا بدقائق مع دويّ صفارات الإنذار، وسقوط 3 صواريخ أُطلقت من قطاع غزة، في المستوطنات القريبة. وتدحض حالة التأهّب التي تعيشها المؤسّسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية قُبيل هذه المسيرة، مزاعم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عقب العدوان الأخير، عن استعادة الكيان ردعه "المتآكل" أمام المقاومة؛ إذ تقف دولة الاحتلال، الآن، على قدم واحدة، خشية إقدام المقاومة على إطلاق صواريخ على القدس، على غرار ما جرى في معركة "سيف القدس". وإلى جانب نشر 3 آلاف شرطي في المدينة، وُضعت "القبة الحديدية" التي استُنزفت وعُطّلت في المواجهة الأخيرة، في حالة تأهّب في جميع أنحاء فلسطين، فيما تخشى إسرائيل من عدّة سيناريوات أخرى قد تتحقّق خلال المسيرة، أبرزها تنفيذ عمليات فدائية، أو إطلاق النار ضدّ المستوطنين، أو اندلاع مواجهات واحتكاكات قد تَخرج عن السيطرة.
ويسعى نتنياهو إلى كسب بعض النقاط الداخلية، واستعادة شعبيّته المتراجعة، من خلال سماحه باقتحام المسيرة للأحياء المقدسية في البلدة القديمة، وتحديداً باب العامود، وقيام المشاركين فيها بكلّ ما يحلو لهم، والتهديد باغتيال وقتل مَن يحاول التشويش على المسيرة أو عرقلتها. لكن المقاومة في غزة ردّت على ذلك بتوجيه تهديدات، كان أبرزها نشر "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، مساء الثلاثاء عبر قناتها على "تليغرام"، صورة للمسجد الأقصى ومن خلفه صواريخ بعيدة المدى وعبارة "سيف القدس لن يُغمد"، وهي رسالة قُرئت لدى البعض على أنها تهديد بتكرار ما جرى عام 2021.
وفي الاتّجاه نفسه، حذّر ممثّل حركة "حماس" في لبنان، أسامة حمدان، من أن "أيّ تجاوز لأيّ خطوط حمراء يعني أن المقاومة سيكون لها رأي وقرار. وإذا كان الاحتلال يعتقد أنه بعدوانه على غزة أغلق الباب أمام منع مواجهة أخرى لضمان مسيرة الأعلام، فهذا خطأ"، في حين قال عضو المكتب السياسي للحركة، صلاح البردويل، في تغريدة عبر "تويتر": "باب الأقصى ليس باباً عادياً ليُدقّ بأيدٍ نجسة، وستفهم قطعان السوائب ذلك عندما تسمع الجواب، وهو آتٍ لا محالة من عمق قلوب مسكونة بالعزة والكرامة والتاريخ المشرّف والرجولة والعناد". أمّا حركة "الجهاد الإسلامي"، التي خرجت قبل أيام من جولة قتال شرسة وقصيرة ضدّ جيش الاحتلال، فأكدت أن "المقاومة ستكون على أهبة الاستعداد لمسيرة الأعلام ولن تسمح بأيّ عدوان".
أكد رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، أن الجيش يستعدّ للقتال على جبهات عدّة في الوقت ذاته


على أن التحدّيات الأمنية الماثلة أمام العدو راهناً لا تقتصر على فصائل المقاومة في غزة، بل تكاد تكون مدينة القدس بأهلها ومرابطيها التحدّي الأول الذي يمكن أن يعرقل "مسيرة الأعلام". ولذا، شنّت قوات الاحتلال حملة اعتقالات وإبعاد لعشرات المقدسيين عن المدينة، في ظلّ زعم أجهزة الأمن تلقّيها تحذيرات أو إنذارات من احتمال إقدام فلسطينيين على تنفيذ عمليات على خلفية المسيرة. وقال قائد شرطة الاحتلال في القدس، دورون تورجمان، إنه "في إطار الاستعدادات لأنشطة معادية، تستعدّ الشرطة لاحتمال إطلاق النار من غزة أو من أيّ مكان آخر، هناك لوائح وصيغ إنذار صوتية منظّمة، بما في ذلك مخارج للطوارئ وتعليمات حول كيفية التصرّف في مثل هذه الحالة للجمهور". وعن إمكانية اقتحام المستوطنين لباحات المسجد الأقصى وتغيير مسار المسيرة لتمرّ من الحرم القدسي، أجاب تورجمان بأن "مسيرة الأعلام لن تمرّ في جبل الهيكل (الحرم القدسي)، لم تتمّ الموافقة على ذلك ولن يتمّ ذلك. في العام الماضي، كان هناك من رفعوا الأعلام التي أخفوها تحت ملابسهم وسرعان ما أُخرجوا من هناك".
وتهدف الجماعات اليمينية المتطرّفة والأحزاب الصهيونية إلى جعل مسيرة الخميس، الأبرز والأقوى على الإطلاق. فهي من ناحية، تسعى إلى حشد أكثر من 5 آلاف مستوطن لاقتحام الأقصى صباحاً، كما تقدّمت بطلب إلى السلطات الرسمية للسماح باقتحام مماثل عصراً. كذلك، أعلن 4 وزراء على الأقلّ في حكومة نتنياهو مشاركتهم في الفعالية، لكن أيّاً منهم لم يجرؤ على الإعلان حتى الآن عن نيّته مشاركة المستوطنين في اقتحام المسجد. وإذ يتطلّع الائتلاف الحكومي، من وراء الإصرار على تنظيم المسيرة وفق ما هو مخطَّط لها، إلى ترميم مكانته، فإن احتمال انطلاق صواريخ من غزة، والحال هذه، سيكون من شأنه إبطال تلك التطلّعات، خصوصاً أنه سيُدخل الكيان في حالة شلل، ويجبر مستوطنيه على البقاء في الملاجئ، إن لم يدفع أصلاً إلى تصعيد ممتدّ ومتعدّد الساحات.
وفي هذا السياق، تَحضر الحقيقة المتمثّلة في عجز جيش الاحتلال عن هزم حركة "الجهاد الإسلامي" التي تُعدّ الثانية من ناحية القوة في غزة، والتي لم تستخدم كلّ أوراقها وقوتها في المواجهة. وعلى رغم ادّعاء وزير الحرب الإسرائيلي تدمير كلّ إمكانات الحركة الحربية، إلّا أن "سرايا القدس" أطلقت قبل وقف إطلاق النار رشقة صاروخية كبيرة صوب تل أبيب، أثبتت محافظتها على مخزونها وقدرتها على السيطرة. ولن يغيب عن التقديرات الأمنية الإسرائيلية أنه منذ انتهاء معركة "سيف القدس"، خاضت "الجهاد" مواجهتَين كبيرتَين، استخدمت خلالهما جزءاً كبيراً من ترسانتها الصاروخية، بينما حركة "حماس" التي تملك مخزوناً أكبر من ذلك بكثير، راكمت وأنجزت خلال هذين العامين ما لا يمكن توقّعه. وبالتالي، فإن المواجهة اليوم لن تكون شبيهة على الإطلاق بما جرى في عام 2021، فضلاً عن أن ساحة لبنان التي كان لها حضور خجول في عام 2021، كشّرت عن بعض أنيابها خلال شهر رمضان الأخير، وإذا ما اندلعت مواجهة من أجل المسجد الأقصى، فإنها قد تُخرج الكثير ممّا لديها، في سيناريو حرب متعدّدة الجبهات لم يَعُد يفارق صانعي السياسة والحرب في الكيان.
وفي هذا الإطار، أكد رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، أن الجيش يستعدّ للقتال على جبهات عدّة في الوقت ذاته، وذلك في تصريحات صدرت عنه خلال يوم دراسي أوّل من أمس، نظّمته قيادة الجبهة الشمالية التابعة للجيش الإسرائيلي حول "حزب الله" اللبناني، واستعداداته لمواجهات مقبلة محتملة مع إسرائيل. وأوضح هليفي أنه "لن يكون من الممكن بالضرورة تطبيق كلّ شيء في القتال ضدّ حزب الله في لبنان"، مقارنةً بالأساليب التي اتّبعها العدو خلال عدوانه الأخير على غزة. أيضاً، أطلع كبار الضباط في الجيش، قيادات الوحدات العسكرية، على "تهديدات ملموسة" بإمكانية اندلاع حرب على جبهة غزة وفي الضفة الغربية وعلى الجبهة الشمالية في الوقت ذاته. وأشار موقع "واللا"، نقلاً عن مصادر في قيادة الجبهة الشمالية، إلى أن اليوم الدراسي الذي شارك فيه هليفي كان يهدف إلى "التعمّق أكثر في القوات الخاصة التابعة لحزب الله، بما في ذلك وحدة النخبة (وحدة الرضوان)، ومناقشة استعدادات حزب الله لحرب كبرى مع إسرائيل". كما ناقشت القيادة أنشطة "حزب الله" المتنوّعة "في حالات الطوارئ والحالات الروتينية، وتعزيز قواته على طول الحدود في جنوب لبنان، وإقامة التحصينات والمواقع العسكرية في القرى، ونقل الذخائر إلى المنطقة الحدودية، والاستجابة المطلوبة من الألوية النظامية والاحتياطية".