حتى نهاية العام 2021، كان من الممكن أن يبقى الأسير المحرَّر المبعَد إلى قطاع غزة، طارق عز الدين، هو المدير العام لإذاعة «صوت الأسرى»، والناشط الإعلامي في هذا المجال فحسب، غير أن عملية الهروب من «نفق الحرية» في أيلول من العام ذاته، وما أعقبها من تشكيل «كتيبة جنين» ستعيد ابن بلدة عرابة في قضاء جنين، إلى المربّع الذي أحبّ العمل فيه طوال حياته. في إذاعة «صوت الأسرى»، لم يكن بإمكان أحد التوقّع أن «أبو محمد»، الهادئ البسيط، الضحوك وصاحب «البرستيج» الجميل، هو نفسه المقاوم العنيد إلى الحدّ الذي تمنّى معه السجّان الإسرائيلي لو يبقيه في سجونه حتى بعد موته 100 عام. يقول طارق في حديثه عقب تحرّره في صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011: «قال لي السجان، حتى لو حدثت صفقة تبادل أسرى، لن نطلق سراحك يا طارق، لكنّني تحرّرتُ بهذه الصفقة المشرّفة، ولن يهدأ لنا بال حتى يتحرّر باقي إخواننا الأسرى». في عرابة، كان عز الدين (14/9/1974) قد صنع لنفسه حضوراً سياسياً وشعبياً وعسكرياً لافتاً. وحين اعتقلته قوات الاحتلال بسبب مشاركته في معركة جنين عام 2002، وُجّهت إليه أيضاً تهمة التخطيط لعملية الخضيرة الاستشهادية في العام 2001، وحُكم عليه بالسجن المؤبّد، بالإضافة إلى عشر سنوات وثمانية أشهر. قبل اعتقاله الذي قضى منه 13 عاماً، كان عز الدين قد نشط على نحو فاعل في بناء خلايا المقاومة في الضفة الغربية المحتلّة. يقول مصدر في «الجهاد» لـ«الأخبار»: «أبو محمد مسكون بالعمل العسكري، صحيح أنك لن تلاحظ هذه الميول في شخصيته التي تحمل أعلى مستويات الوداعة والهدوء، إلّا أنه صاحب تجربة كبيرة في هذا الصدد قبل اعتقاله. وحين خرج من المعتقل، كان أوّل ما طلبه أن يعود إلى ممارسة دوره، وقد سمحت له ساحة الضفة بالقيام بما تمنّى على نحو منجزَ».
في السجون، عاش والد الطفلَين الشهيدَين علي وميار، حياة زاخرة بالعلم والثقافة؛ إذ أتمّ دراسته الجامعية، وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية، وعقب تحرّره، حصل على الماجستير. على أن العلم لم يكن الشيء الوحيد الذي أورثته إيّاه معتقلات الاحتلال؛ إذ أصيب في العام 2018 بمرض «لوكيميا الدم»، وعلى إثره، تدهورت حالته الصحية إلى حافّة الوفاة، قبل أن تنجح الضغوط الرسمية والشعبية في تسهيل إجراءات سفره لتلقّي العلاج في مصر. قبل استشهاده، اتّصل بجميع إخوانه وودّعهم، حيث كان، وفق ما أكده شقيقه جعفر، على موعد مع رحلة سفر سياسية إلى مصر، ومنها إلى لبنان، الذي سيلتقي فيه الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة، بعدما كلّفه الأخير بعضوية المكتب السياسي للحركة بالتزكية.
رحل أبو محمد بعد رحلة حياة ازدحمت بأحداث أطول منها بكثير، من عرابة، إلى السجون خلال انتفاضة الحجارة عام 1987، إلى سجون السلطة، ثمّ معركة جنين عام 2002، ومنها إلى سجون الاحتلال لـ 13 عاماً، ثمّ محرَّراً ومبعَداً إلى حيّ الرمال في غزة، ثمّ ناشطاً وإعلامياً وكادراً حركياً فاعلاً، وأخيراً، المحرّك الأساس لخلايا المقاومة في الضفة. أمّا رحلة الإبعاد الأخيرة، فإلى حيث تمنى أبداً... إلى السماء.