رام الله | ستشكّل المجزرة التي ارتكبها جيش العدو الإسرائيلي، أمس، وارتقى خلالها 10 شهداء فلسطينيين ونحو 20 جريحاً بعضهم في حال الخطر الشديد، نقطة مفصلية في حالة الاشتباك القائمة في الضفة الغربية المحتلّة، كما ستفتح فصلاً جديداً من المواجهة، سواء في الضفة أو في قطاع غزة. وعاشت مدينة جنين، صباح الخميس، وقائع دموية أعادت إلى الأذهان مشاهد عام 2002، حيث قصفُ المنازل بالصواريخ، وإطلاق الجنود القنّاصة الرصاص الحيّ القاتل على كلّ مَن يتحرّك في شوارع المخيّم من طواقم إسعاف أو صحافيين، والدفع بالجرّافات العسكرية الضخمة التي حطّمت كلّ ما يعترض طريقها مِن مَركبات أو مواطنين، واستهداف المستشفيات، في حين ذكرت «القناة الـ 14» العبرية، نقلاً عن مسؤول عسكري كبير، أن قوّة جوّية كانت حاضرة أيضاً على المسرح، وجاهزة للمشاركة في الهجوم، لكن قيادة الاحتلال اختارت عدم تفعيلها. وخلّف العدوان عدداً كبيراً من الضحايا، ودماراً هائلاً، لكنه لم يفتّ من عضُد مجموعات المقاومة في المخيّم، والتي أكدت تصدّي رجالها لقوات الاحتلال، طوال مدّة العدوان الذي استمرّ نحو 4 ساعات، وإلحاقها خسائر مباشرة بجيش العدو على أكثر من محور اشتباك، وتمكُّنها من إسقاط طائرة مسيّرة برصاصها، في حين زعم جيش العدو أن اجتياحه للمخيّم استهدف خليّة لحركة «الجهاد الإسلامي» كانت تخطّط لتنفيذ عملية فدائية كبيرة وخطيرة داخل إسرائيل، وأنه جرى استهداف البيت الذي تَحصّن فيه عناصر الخليّة، بعدّة صواريخ «إنيرجا».هكذا، بدأ الإجرام الإسرائيلي في الضفة، والذي سلك منذ بداية العام الجاري - مع تولّي حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرّفة دفّة الحُكم - مساراً تصاعدياً، يتّخذ أشكالاً أكثر وضوحاً. إذ بات الإعدام الميداني والقتل المباشر أداته الرئيسة، على غِرار ما جرى قبل مجزرة جنين من إعدام لشابّ من المدينة نفسها قرب قلقيلية، وآخر في مخيم شعفاط. لكن مذبحة أمس سيكون من شأنها دفْع التصعيد إلى مستويات أكثر سخونة، وهو ما حمَل رئيس وزراء الاحتلال، نتنياهو، على إجراء تقييم عاجل للوضع الأمني، في وقت أصدر فيه جيش العدو تعليماته برفع حالة التأهّب تحسّباً لأيّ تصعيد محتمَل مع قطاع غزة. وأجرى وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، الذي يشغل منصب وزير الحرب في حال سفَر الأخير، بدوره، مشاورات وتقييماً للوضع الأمني، أصدر على إثرهما تعليمات مماثلة بإعلاء مستوى التأهّب. وستشكّل مجزرة جنين رافعة كبيرة للمشهد العام في فلسطين، والذي يبدو أنه يتّجه نحو الانفجار الشامل، الذي يَظهر أن الجميع بدأ استعداداته له في خلال الأيام القليلة الماضية، إذ إن ما شهدتْه مدينة القدس يوم الأربعاء من مواجهات عنيفة في أحيائها وبلداتها استمرّت لساعات، واستخدم فيها جيش الاحتلال الرصاص الحيّ، يُعدّ نموذجاً مصغّراً ممّا يمكن أن يحدث في المدينة المحتلّة، إذا ما تدحرجت الأمور الميدانية، وهو ما لن يكون مختلفاً في الضفة، التي ودّعت 29 شهيداً منذ بداية العام، 19 منهم في محافظة جنين.
يبدو واضحاً اشتغال حكومة الاحتلال على دفْع الأوضاع إلى قمّة الغليان


وجاءت مجزرة جنين في وقت كانت قد بدأت فيه الأوساط الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية التحذير من مغبّة التصعيد في الشهرَين المقبلَين، وخاصة مع قرب حلول شهر رمضان. وبالتالي، ربّما يمكن القول إن إسرائيل أرادت استباق ذلك التصعيد، بمقاربة أقصى حدود القتل، والتي قد تَبرز نظائر لها في مناطق مختلفة وتحديداً في مدينة نابلس أو في مخيّم جنين ذاته، من أجل كبْح الفلسطينيين عن الارتقاء بحالة المقاومة والاشتباك. وفي هذا الإطار، أفاد مصدر عسكري إسرائيلي بأنه سيتمّ الدفع بوحدات كبيرة من الجنود والألوية إلى الضفة الغربية في الأيام المقبلة، نظراً إلى التوقّعات بتصاعد الأوضاع وتنفيذ عمليات انتقامية لشهداء جنين، في حين أعلن جيش الاحتلال التأهّب في غزة أيضاً، تحسّباً لردود قد تقوم بها فصائل المقاومة. في المقابل، حذّر رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، عقب المجزرة، من «(أنّنا) أمام مرحلة أكثر ضراوة في المواجهة مع الاحتلال، وسنصل إلى نقطة احتدام واسع قد يَنتج منه حسْم الصراع مع العدو الصهيوني، وما هو قادم في الضفة المحتلّة من مقاومة أكبر ممّا نراه»، بينما أكد نائبه، صالح العاروري، أن «الاحتلال سيدفع ثمن المجزرة التي ارتكبها في جنين ومخيّمها صباح اليوم، وردّ المقاومة لن يتأخّر». وجزمت حركة «الجهاد الإسلامي»، بدورها، أن «ما ارتكبه العدو من جريمة في مخيّم جنين لن يمرّ مرور الكرام»، وأن «الاحتلال سيدفع الثمن جرّاء هذه الجريمة». ثمنٌ يبدو أيضاً أن المزاج الشعبي الغاضب في فلسطين يَدفع في اتّجاهه، في ما يشكّل جزءاً من مشهد التصعيد العام الذي لا تفتأ تتكامل تفاصيله، إذ عمّ الإضراب الشامل مدن الضفّة وبلداتها، فيما خرجت المسيرات الشعبية الغاضبة في عشرات المواقع، مطالِبةً بالردّ على جرائم العدو، توازياً مع اندلاع مواجهات في نقاط عدّة، وسط استنفار لقوات الاحتلال.
بالنتيجة، يبدو واضحاً اشتغال حكومة الاحتلال على دفْع الأوضاع إلى قمّة الغليان، من خلال عبثها بالملفّات الفلسطينية كافة التي يمكن أن تنسف «الوضع القائم»، وتحديداً في القدس، في وقت توجّه فيه نتنياهو إلى المملكة الأردنية، في محاولة لاحتواء ما خلّفته زيارة الوزير المتطرّف، إيتمار بن غفير، للمسجد الأقصى، من ردود فعل غاضبة. على أن ابن غفير خرج، في أعقاب اجتماع نتنياهو بالملك عبد الله الثاني، ليكرّر نيّته اقتحام الحرم القدسي مجدّداً، مشيراً إلى أن تقديرات الشرطة تفيد بأن عملية أخرى، مِن مِثل عملية «حارس الأسوار»، ستتكرّر قريباً، في إشارة إلى معركة «سيف القدس» التي خاضتْها المقاومة عام 2021، وانتقلت رحاها إلى الضفة الغربية والداخل المحتلَّين. وعلى ضوء تلك التقديرات، أعلن ابن غفير أنه سيعمل على تعزيز قوات الشرطة، وإنشاء وحدة جديدة أَطلق عليها «الحرس الوطني»، ومضاعفة القوى العاملة في وحدة «حرس الحدود». في المقابل، دفعت مجزرة جنين، السلطة الفلسطينية، إلى عقْد اجتماع طارئ لقيادتها برئاسة محمود عباس، ظهر أمس، من دون أن يَخرج الاجتماع بأيّ قرارات جادّة وحقيقية يمكن أن تَدفع إلى صدام مباشر مع الاحتلال، باستثناء الإعلان المتكرّر، على لسان المتحدّث باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة، عن «إنهاء التعاون الأمني مع إسرائيل»، والذي بات يثير الهزء لكثرة اجتراره من دون أيّ خطوات عملياتية. واكتفت السلطة، كما كان متوقّعاً، بما دأبت عليه أخيراً، من محاولة امتصاص غضب الشارع الفلسطيني، معلِنةً «التوجّه الفوري إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار لحماية الفلسطينيين»، و»اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية لإضافة ملفّ مجزرة جنين إلى الملفّات السابقة»، ودعوة «الفصائل الفلسطينية إلى اجتماع طارئ للاتّفاق على رؤية موحّدة لمواجهة العدوان». وكان موقع «واللا العبري» قد تحدّث، مساء الأربعاء، عن «جلسات تنسيق أمني عُقدت بين مسؤولين من السلطة وضبّاط من جيش الاحتلال استعداداً لشهر رمضان، الذي تسود خشية من توتّر الأوضاع في الضفة وغزة خلاله»، مشيراً إلى أن «الجيش الإسرائيلي عزّز، في الأيام الماضية، التجهيزات لإمكانية اندلاع تصعيد من هذا النوع، واحتمال تنفيذ عمليات مقاومة كبيرة في رمضان، أو اندلاع مواجهات عنيفة».