إبراهيم الشاويش، كان الاسم الذي حمله جواز سفر فتحي الشقاقي المزوَّر، حين اغتالتْه مجموعة من جهاز «الموساد» الإسرائيلي في السادس والعشرين من تشرين الأول 1995، في بلدة سليمة في جزيرة مالطا. هو فتحي إبراهيم الشقاقي (1951)، ابن مخيم رفح للاجئين، والطالب المثابر في جامعة بيرزيت، التي تَخرّج منها من دائرة الرياضيات، ثمّ غادرها إلى جامعة الزقازيق في مصر، قبل أن يعود ليعمل طبيباً في مستشفى المطلع في مدينة القدس، ثمّ في قطاع غزة. في الزقازيق، وجد الشقاقي، برفقة عدد من زملائه الطلاب، إجابات عن جملة من الأسئلة التي ظلّت تؤرّقه طوال سنوات. ابن قرية زرنوقة المحتلّة، والذي حمل الأفكار الناصرية القومية بكلّ ما يعتمل في قلبه وعقله من شعور وإدراك، بحث طويلاً عن مسوّغات الهزيمة، وعن دور الإسلام كمعتقد في القضية الفلسطينية. ووسط بحرٍ من علامات الاستفهام، اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، ليري فيها مؤسِّس حركة «الجهاد الإسلامي» نقطة التحوّل الكبرى، التي ستكسر رتابة المشهد العربي والإسلامي والدولي برمّته، بعد أفول نجم الحركات القومية والاشتراكية.
لم يَسلم «أبو إبراهيم» من موجة التكفير والاتّهام بالتشيُّع من قِبَل التيّار السلفي (أرشيف)

آنذاك، ألّف الشهيد كتابه «الخميني... الحلّ الإسلامي والبديل»، الذي صبّ فيه مجمل أفكاره الاستشرافية لمستقبل المنطقة والعالم، قبل أن تنتصر الثورة الإسلامية بأشهر. فيما بعد، سيدور جدل كبير حول أطروحات «فتحي عبد العزيز» - الاسم المستعار الذي نُشر به الكتاب -، ولا سيما أن الأخير أهدى مؤلَّفه إلى «رجلَي القرآن... الإمام حسن البنا والثائر آية الله الخميني». ستُطرح الكثير من الأسئلة حول هويّة الحركة التي ستنطلق في مطلع الثمانينيات: هل انشقّ الشقاقي عن جماعة «الإخوان المسلمون» التي كان ينتسب إليها، أم أنه قدّم فكراً جديداً من تحت عباءتها؟ غير أن «عز الدين الفارس» لن يلتفت إلى تلك النقاشات كثيراً، بل سيمضي من دون مواربة في الإعراب عن اعتقاده بأن «للعمائم السوداء دوراً في الربع الأخير من القرن العشرين... وللطرحات النسائية السوداء دورٌ أيضاً». سيرى الشقاقي، أيضاً، رابطاً بين «استشهاد الحسين قبل أكثر من 1300 عام، وبين سقوط أكثر النظم العصرية استنفاراً في غرب آسيا». سيُجيب الرجل بنفسه عن طوفان أسئلة الهزيمة، ناحتاً إجاباته من كلام ملهِمه السابق جمال عبد الناصر: «بِمَن سأُنقذ هذه الثورة؟ ليتني كنت من رجال الدين». يحلّل تجارب الثورات الغابرة في الجزائر، مستشهداً في كتابه بحديث هواري بومدين الذي انتفض على أحمد بن بلة: «رأيتُ مئات آلاف الجزائريين يسيرون في جنازة الشيخ البشير الإبراهيمي، كأنهم يريدون الكفر بالجديد الذي جاءهم به بن بلة، لقد استبدّ الحنين بالناس إلى الماضي المحافظ، وهم يرون ما فعلته بهم يد الحاضر الثوري». هكذا، تَقدّم الشقاقي بـ«الإسلام الثائر» كحلّ بديل انتقد فيه حرفيّة النصوص الجامدة، التي حصرت الدين في إنفاذ الأحكام الفقهية كـ«قطْع يد السارق، وجلْد الزاني»، بينما بلادٌ على مدّ البصر تغرق في ديون صنعها الاستعمار، الذي صادر قرارها السياسي، وحرمها سبل التنمية والتطوّر.
أعاد الشقاقي ورفاقه اكتشاف الشيخ الأزهري، عز الدين القسام، الذي غادر بلدته جبلة في قضاء اللاذقية في سوريا (1920)، التي كانت ترزح تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، قاصداً مدينة حيفا في فلسطين. هناك، حرّض الشيخ الشهيد الناس على مقاومة الاحتلال الإنكليزي، قبل أن يقضي في معركة يعبد في أحراش جنين (1935). رفع الشقاقي ورفاقه حكاية القسام كثيفة الدلالة، في وجه «إسلاميّي الخليج» الذين لبّوا نداء القتال في «كابول»، حين أذّنت أميركا بـ«الجهاد» ضدّ السوفيات على حدّ توصيف الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل. لم يَسلم «أبو إبراهيم» من موجة التكفير والاتّهام بالتشيُّع من قِبَل التيّار السلفي، الذي دفعت فتواه المئات من «المجاهدين» إلى مغادرة فلسطين، لأن «الأولوية هي قتال الشيوعيين في أفغانستان»، ليأتي ردّه على ذلك في كتابه «السنّة والشيعة... ضجة مفتعلة»، حيث قال: «هل يَصمت الغرب على فرحة الشعوب المسلمة بانتصار الثورة؟ كلا، هم يحاولون إثارة الفتنة بين جناحَي الأمّة السنّة والشيعة، في محاولة أخيرة لمحاصرة المدّ الثوري، ومنْع تأثيره من الوصول إلى المناطق الغنية بالبترول (...) لأن الاستعمار وعملاءه من أمراء النفط والطغاة الدمى، يفهمون أن هذه الجبهة ليست بحاجة إلى أسلحة وعسكر، إنّما بحاجة إلى مَن يُفتي، إذن فَلْينفّذ الدورَ مسلمون أصحاب عمائم ولحى سوداء، أكانوا في أجهزة الأنظمة الرسمية، أو خارج هذه الأجهزة، اكتشفوا فجأة أن الإمام الخميني كان شيعياً، وأن الشيعة فرقة ضالّة وكافرة. وبدأ يتكرّر أمامنا مشهد الشاب المسلم، الذي يحمل كتاباً سعودياً مليئاً بالمغالطات والافتراءات، يحمله من مسجد إلى مسجد، يشرحه للناس ويبشّر بما به من أضاليل. أُدرك أن بعض هؤلاء يتحرّك بحُسن نيّة، متوهّماً أنه يعمل لله، كما أُدرك تماماً أن الطريق إلى جهنّم مليء بمِثل هذه النوايا الحسنة».
44 عاماً هي سنيّ حياته التي استقبل فيها كلّ تهديد بالقتل، بعبارته الأثيرة: «حارس العمر الأجل»


في الزقازيق أيضاً، دار حديث طويل عن ملامح الحركة الجديدة. يقول الدكتور محمد مورو، وهو صديق الشهيد الشقاقي: «انطلقْنا من أن الجهاد هي حركة وطنية شاملة، تضمّ في جنباتها أطياف المجتمع كافة (...) المسيحي الذي يعيش في المجتمع المسلم، هو مسلم ثقافة (...) وانطلقْنا من فهم أن هذه الحركة يجب أن تكون حركة ميدانية، تلتحم بالجماهير، في الأسواق والمساجد والجامعات والمكتبات العامة، البناء المؤسَّساتي البيروقراطي يثقل كاهل الحركة بالأعباء، ويجعلها مقيَّدة وعرضة للابتزاز». هكذا، كانت الحركة التي انطلقت في مطلع الثمانينيات، تمارس دوراً يتجاوز حجمها التنظيمي؛ فـ«الجهاد»، كما يقول كثيرون، «فكرة أكبر من التنظيم»، وهي كيان «رسالي تسير خلْفه الجماهير، وحتى المخالفون والخصوم يجدون أنفسهم في وقت لاحق، يرفدون الأفكار التي كانوا في يومٍ ما خصوماً لها، بدمائهم».
أخيراً، كان ذلك المتمرّد على موعدٍ مع أجَله، الذي ظلّ «حارسه» لـ44 عاماً، هي سنيّ حياته التي استقبل فيها كلّ تهديد بالقتل، بعبارته الأثيرة: «حارس العمر الأجل». استشهد الشقاقي إذاً، «ومَن يستشهد إذا لم يستشهد فتحي الشقاقي؟» - كما قال محمد مورو -، وترك خلْفه توقيعه الخالد، على كلّ المخاضات التي عصفت بفلسطين، وأراد لجُرحها أن يظلّ مفتوحاً: «يا أهلي هاتوا الملح... حتى يبقى حيّاً هذا الجرح». ظلّ يقرّع نفسه طيلة حياته: «لن أغفرها لك، تلعنني أمي إن كنتُ غفرت.. تلفظني القدس إن كنتُ نسيت». كما ظلّ يلوح بدمائه التي كانت دليل صدقه في وجه مَن خالفوه وحاربوه: «لن تصدّقوني... إلّا عندما تروا دمي على صدري».