لم تَعُد «مسيرة الأعلام» التي اعتاد العدو تنفيذها في كل عام، لمناسبة احتلال القدس وإعلان توحيدها، في عام 1967، مجرَّد حدث تقليدي يمرّ بشكل عابر على المستويَين السياسي والإعلامي. ولم يَعُد في مستطاع الكيان الإسرائيلي الادّعاء بأنه يمارس هذا الإجراء من موقع الشعور بالتفوّق، وفي ظلّ إحساس بفائض الأمن. المستجدّ الأبرز الذي شهدته فلسطين والمنطقة، أن الصهاينة باتوا يمارسون طقوسهم وعيونهم شاخصة في اتجاه «الشرّ الآتي من الشمال» (مقولة توراتية). مع هذا، فإن رأس الحربة في الاشتباك المتواصل في هذه المرحلة هو المناضل الفلسطيني الذي يتصدّى بقبضاته للمستوطنين في أحياء القدس، التي تحوّلت هي الأخرى إلى ساحة نضال تؤكد، يوماً بعد آخر، تغيّر المعادلات لمصلحة فلسطين. ولا يقتصر هذا التوصيف على كونه استقراءً للواقع، بل هو ما يؤكده نحو 73% من الإسرائيليين، ممَّن رأوا أن البلدة القديمة والقدس الشرقية تحوّلتا إلى مكان غير أمن، أو غير آمن بالمرّة، وفق استطلاعات للرأي.المتغيّر الإضافي الذي تؤشر إليه كلّ محطة من محطّات المواجهة مع العدو، وينسحب بالتأكيد على ما رافق «مسيرة الأعلام» من أحداث ومواقف، أن هذا الطقس «السيادي»، وفق المعايير الصهيونية، اعتاد المستوطنون ممارسته بشكل تقليدي، منذ ما قبل معركة «سيف القدس». لكنه تحوَّل إلى حدث يُهدِّد الاستقرار الأمني ويفرض على الدول العظمى والإقليمية التدخُّل وتوجيه النداءات وإجراء الوساطات العلنية وغير العلنية مع كل الأطراف، بهدف ضبطه والحؤول دون أن يتسبّب بتداعيات دراماتيكية من شأنها أن تعيد خلط الأوراق وتُسرِّع من وتيرة اختصار الزمن.
وانطلاقاً من إدراكها لجدّية المخاطر، توالت مواقف الأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية التي أوصى بعضها بعضاً بالانضباط والتصرّف بمسؤولية، من أجل الحؤول دون التسبُّب بانفجار واسع مع قطاع غزة، قد يتدحرج نحو مواجهة إقليمية. لهذا، لم تُخفِ إذاعة جيش العدو حقيقة أن «مسؤولين رفيعي المستوى في المنظومة الأمنية قالوا لمسؤولين كبار في الشرطة الإسرائيلية، في سياق جلسة تقدير وضع، إن هناك مسؤولية كبيرة جداً ملقاة على عاتق شرطة القدس. وأوضح هؤلاء مقصدهم بأن أداء الشرطة في الميدان، سيحدِّد، إلى حدٍّ كبير، ما سينتهي إليه المشهد. وحرصوا على تقديم التوصيات لهم، بالقول إنه ينبغي عليهم الامتناع عن (التسبُّب بـ) صور قاسية تنشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كما حصل في جنازة شيرين أبو عاقلة، ومنْع عمليات الاستفزاز في جبل الهيكل (الحرم القدسي)، والتصرف بحكمة»، في إشارة صريحة إلى القلق من أن يؤدّي ذلك إلى دفع مناضلين لتنفيذ عمليات في قلْب المدن الإسرائيلية، كما حصل في الأسابيع الأخيرة، وحتّى لا تتحوّل «مسيرة الأعلام» إلى حدث مُحفّز لتزخيم المواجهة والتدحرج نحو سيناريوات أكثر خطورة. وعلى هذه الخلفية، واكبت مؤسسات التقدير والقرار في كيان العدو الحدث، بجلسات تداخلت فيها الحسابات الداخلية والحزبية والإقليمية. على أيّ حال، تتقاطع رسائل الحدث المقدسي مع مجموعة متغيّرات تلتقي حول اتجاه المعادلات التي تصبّ جميعها في فلسطين. لكن أكثر ما يخشاه العدو، أن لا يكون الغد كاليوم، أي أن تلتحم كلّ الساحات في الداخل الفلسطيني، وهو سيناريو تتراكم إرهاصاته بوتيرة تؤكد أن اليوم الذي تتلاقى فيه كل ساحات فلسطين على قاعدة التكامل والتعاضد، وبما يتلاءم مع معادلات كلّ ساحة، ليس بعيداً. وأكثر ما تظهر مؤشرات هذا المسار في مناورات جيش العدو وإجراءاته ومواقف قادته الذين يتعاملون بكامل الجديّة والخطورة مع المشهد الفلسطيني، في سياق مواجهة كبرى في المنطقة.
ينبغي عدم تجاهل حقيقة أن ما جرى في القدس ينطوي أيضاً على أبعاد سياسية داخلية في الساحة الإسرائيلية


انطلاقاً من هذه المستجدات، بات قادة العدو أكثر إدراكاً بأن الآمال التي راودتهم حول إمكانية الجمْع بين الاحتلال والأمن، تحوّلت إلى أضغاث أحلام. وفي كل محطّة ظنّوا فيها أنهم نجحوا في إخضاع الشعب الفلسطيني، كانوا يفاجأون بتكتيكات وأساليب لم يعهدوها من قَبل. لكن الحقيقة الموازية التي ينبغي فهمها أيضاً، هي أن قرار المواجهات العسكرية لحماية القدس والمسجد الأقصى ليس حالة انفعالية أو تلبيةً لرغبات بعض الرأي العام، أو حتى بعض المزايدين، وإنما مسار متواصل وطويل، مثلما هي إجراءات العدو في هذا المجال.
على خط مواز، كشفت الاتصالات الدولية والإقليمية، والمواكبة الأمنية والسياسية للحدث المقدسي، ولـ»مسيرة الأعلام»، حجم حضور رسائل المقاومة في الداخل والخارج. وكان التقدير السائد لدى الأجهزة الأمنية، أن حركة «حماس» لن تسارع إلى مواجهة عسكرية واسعة، لكنها تدرك أيضاً أن مفاعيل هذا التقدير تقف عند سقوف معينة. والخشية لديهم من أن تختار الفصائل الفلسطينية الردّ من الخاصرة الرخوة في الضفة الغربية وانطلاقاً منها.
في المقابل، ينبغي عدم تجاهل حقيقة أن ما جرى في القدس ينطوي أيضاً على أبعاد سياسية داخلية في الساحة الإسرائيلية حضرت في خلفية طرفَي التنافس. فحكومة بينت – لابيد، تعرّضت لضغوط داخلية تهدف إلى منْعها من تغيير مسار «مسيرة الأعلام»، فضلاً عمَّا يستبطنه قرار كهذا من رسائل تُعزِّز الشعور بالانتصار لدى الطرف الفلسطيني في أعقاب معركة «سيف القدس» العام الماضي. وأكثر ما كان يخشاه بينت من أن يشكّل أيّ مرونة أو ضعف من قِبَله، فرصةً لمعسكر نتنياهو للانقضاض عليه والتشكيك بهويته اليمينية. لذلك، حرص على ألّا يبدو كمَن خضع للفلسطينيين، ولليسار المشارك في حكومته. بالتوازي، يسعى المتطرّفون الصهاينة المؤيدون لنتنياهو إلى حشْر الطرَفين الفلسطيني والحكومي من أجل فرض وقائع تستهدف مستقبل الوضع في المسجد الأقصى على قاعدة التقسيم الزماني والمكاني.
الملاحظة التي تختصر هوية وطابع المعسكرات التي تتبلور في الساحة الإقليمية، أنه في الوقت الذي يدافع فيه الشعب الفلسطيني عن القدس والمسجد الأقصى، جرى الإعلان في كيان العدو عن أن استهداف إيران سيتواصل ثمناً لوقوفها إلى جانب فلسطين، وبتعبير بينت لأنّها «تسلّح» قوى المقاومة. في المقابل، كشفت صحيفة «إسرائيل اليوم» عن أن مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى زاروا سرّاً السعودية، في العقد الأخير، بينهم وزير الأمن بيني غانتس، عندما كان يتولّى منصب رئيس أركان الجيش، ورئيسا الموساد السابقان، مئير داغان وتَمير باردو، ورئيسا مجلس الأمن القومي السابقان، يوسي كوهين (الذي أصبح لاحقاً رئيساً للموساد) ومئير بن شبات. وأكدت أيضاً أن نتنياهو وكوهين زارا السعودية والتقيا وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، بحضور وزير الخارجية الأميركي حينها، مايك بومبيو. وعلى خطّ موازٍ، تتسارع وتيرة تعزيز العلاقات التركية - الإسرائيلية التي تتكامل مع انفتاح تل أبيب العلني على دول الخليج من أجل هدفَين اثنين: احتواء تصاعد محور المقاومة، وتطويق فلسطين وشعبها.