إنها الثامنة صباحاً. لكن السماء لا تزال معتمة. هذا موعد انتهاء دوامه الليلي في مصنع التعبئة. لقد أنهى عمله منذ نحو ساعة. وكان عليه أن ينتظر حتى الثامنة ليحصل على أجره كاملاً. الحق يقال، هو ليس كاملاً أيضاً، الكثير منه سيذهب لمصلحة الضرائب التي لم يكن يعلم بوجودها في بيروت. هذه قصة هجرة مكتوم القيد، أحمد، الذي ترك «بلاد أحبها» وتوجّه إلى المنفى.
أقل من لاجئ
بيروت؟ كان ذلك منذ 4 سنوات أو أكثر. لقد أوقفت العدّ عند السنة الثانية. كم أصبحت بيروت بعيدة الآن. أكثر ما أذكره فيها شمسها. حتى في أشد أوقات الشتاء قساوة كانت تطل وتعطي دفئها للناس. السماء هناك حنونة على أهل الأرض. لا شمس في هذه البلاد، حتى حين تطل علينا تكون أشعتها كاذبة دون دفء.
أنت تعرف أنني دُفعت دفعاً إلى هذا الخيار. أذكر يوم جاء ولدي أنس إلى هذه الدنيا، حاولت طويلاً أن أصدر له ورقة قانونية واحدة. ولم أفلح. فأنا ابن النكسة. ونحن الفلسطينيين في الشتات نُنسب إمّا للنكبة أو للنكسة. حين كنت أصارع لاستصدار أوراق ثبوتية قانونية لأنس، تمنيت لو أن والدي تهجّر في النكبة ولم ينتظر أحداث عام 67 حتى يلتحق بمعسكرات الفدائيين في الأردن ومنها إلى لبنان!
صرت أكرّر تلك الأمنية دائماً، حتى أقفلت الشركة التي كنت أعمل فيها. قلت هذا هو موعد الرحيل، ولم يكن رحيلاً هيناً، كان عليّ أن أدفع شقاء العمر كله، حتى أصل إلى بلجيكا مع زوجتي وطفلي.
بعت منزلي في المخيّم، ذاك المنزل الذي عملت عليه سنين طويلة وبنيته وأصدقائي حجراً فوق آخر. وكم فرحت أنه لم يسقط كاملاً أثناء قصف مخيّم نهر البارد عام 2007. لكن ثمن المنزل على أي حال لم يكن كافياً، باع والدي سيارته أيضاً وقدّم لي ثمنها، ثم خرجت إلى السماسرة أفاوضهم وأدقق في عروض رحلاتهم.

«دبّر راسك»
الأوّل كان يريدني أن أحصل على تأشيرة تركية، ثم أمضي من هناك بحراً إلى اليونان، ومنها «دبّر راسك»!
الثاني كان يقول إنه سيؤمّن لي تأشيرة إلى روسيا، ويضعني مع سماسرة هناك في الغابات المؤدية إلى فنلندا. أخبرني أن طريقي من هناك سهلة، وقد أقطعها على دراجة هوائية. شد على يدي كأخ لم تلده أمي، وقال «لا تقلق». ببحث بسيط، علمت أن درجات الحرارة في تلك المناطق الحدودية، في ذاك الوقت من العام، تكون تحت الصفر بعشرين درجة، ذلك في أحسن أحوالها. وكيف سأقطع تلك الحدود دون أن أقتل طفلي؟ أو أقلق!
السمسار الأخير قدّم لي عرضاً بالسفر إلى الإكوادور، وفي طريق العودة ننزل بمطار مدريد في إسبانيا. قلت وبعد المطار؟ أجاب أيضاً «دبّر راسك»! فقرّرت أن أمضي معه. وبدا لي أن لا خيار أمامي سوى أن أدبّر رأسي.
وقبل أن أدبّر رأسي معه، قبّلت يد أمي ووالدي، ثم مضيت إلى المطار حاملاً طفلي إلى ما لست أعلم من مستقبل مجهول كان ينتظرنا. في الطائرة، انفجرت عيناي بالبكاء، فعند الإقلاع، وأنا أنظر إلى بيروت من الأعلى، علمت أنه قد يكون فراقي الأخير لأمي وأبي. وتذكرت حزن أمي على أخي الذي قضى في أحداث نهر البارد وشعرت بأنني أخلع قلبها مرة أخرى بسفري هذا.
بعد نحو أسبوعين من السفر كنا لا نزال في الإكوادور، والمال الذي معي لم يعد يكفي إلا لثلاثة أيام. السمسار كان غائباً عن السمع. قلت «فعلها ابن الكلبة». لكنه اتصل في مساء ذلك اليوم وقال جهّز نفسك، غداً تقلع طائرتك، وإلى الآن لا أعرف لماذا وضعنا أسبوعين في الإكوادور. لكنني على أي حال كنت قد شتمت والدته وكان عليّ أن أعود عن شتيمتي بعدما علمت أنه لم يسرقني.

خيوط خفيّة
في بلجيكا، نزلت كما غيري في مخيّم للاجئين. كان مخيّم برج البراجنة ونهر البارد اللذان جربتهما في لبنان أرحم منه. الأكل في مواعيد ثابتة. بيوت خلاء مشتركة. حتى موعد نومك محكوم بمن حولك من الناس. بشر من كل بقاع الأرض يقصدون هذه البلاد كما نقصدها نحن وللأسباب ذاتها.
قلت سأتخلص من حياة المخيّم، وأعمل. عملت في مصنع التعبئة، وقبلها بالزراعة، وكنت أفلح في أرض أوروبا كما لم أفلح في قريتي الفلسطينية البعيدة التي لم أرها يوماً أو في مخيمي في لبنان الذي بات أبعد. بعد نحو أربع سنوات، لم أحصل خلالها على أوراق واضحة بعد، يهون العناء عليّ حينما أنظر إلى أطفالي يدرسون الفرنسية والهولندية، ويتقنونها إلى جانب العربية.
وفي فترات الراحة بالعمل أتساءل دائماً، من الذي يسهّل لنا هذه الهجرة؟ المهرّبون؟ السلطات اللبنانية؟ تركيا؟ إسبانيا؟ روسيا؟ الإكوادور؟ العدوّ؟
كنت أصل دائماً إلى أن خيوطاً خفيّة موجودة وراء كل ذلك. أحياناً أشعر للحظات بضرورة العودة إلى المخيم، بعدما يأتيني ذلك الصوت ليقول لي: اخدم قضيّتك. ثم أسمع بعده صوتاً آخر يقول لي «اخرس، بلا وطنيات». فأخرس وأكمل طريقي في هذا المنفى دون صخب لأجل أطفالي.