الجليل المحتل | لأكثر من 71 عاماً، لم تتنازل سلوى قبطي، ابنة قرية معلول المهجّرة (شمال فلسطين)، عن حلمها بزيارة قبر والدها سليم الذي لم تره قط؛ بعدما استشهد وهي جنين في بطن والدتها. كيف استشهد؟ تقول سلوى، لـ«الأخبار»، إنه «خلال عمله موظفاً في سكة القطارات في مدينة حيفا، دهم الجنود الإسرائيليون الحافلة التي كانت تقلّ موظفي السكة، وأطلقوا عليهم النار»، الأمر الذي أدى إلى إصابة سليم وعدد من رفاقه العمّال، فاستشهد بعضهم فوراً ومنهم أبوها. دُفن قبطي في مسقط رأسه في معلول. وما إن شبّت طفلته، التي ولدت بعد أسبوعين من تهجير قريتها في 15/7/1948، حتى باشرت قرع كل الأبواب من أجل السماح لها بزيارة قبر والدها. طالبت السلطات الإسرائيلية أكثر من مرة بذلك، لكن الأخيرة كانت تردّ بالرفض دائماً، معللة رفضها بأن «المقبرة تقع في منطقة عسكرية مغلقة»، بعدما أُقيمت على أنقاض القرية قاعدة تابعة لسلاح الجو وأصبحت المقبرة داخله.
استطاعت قبطي كسر أوامر عسكرية مقابل سحب «التماس» قانوني

بعد عقود من المنع، قدّم مركز «عدالة» الحقوقي (مقره حيفا المحتلة) التماساً طالب فيه بالسماح لسلوى وخالها، صبحي منصور، بزيارة المقبرة وصيانتها. وعلى إثر الاستئناف، سُمح لسلوى أخيراً بالزيارة مقابل سحب الالتماس من المحكمة. تقول المحامية في «عدالة»، سوسن زهر، إن «جيش الاحتلال منع قبطي من ممارسة حقها الإنساني والقانوني بزيارة قبر أبيها وأخيها من دون وجه حق، ومن دون الاستناد إلى دليل قانوني واحد، حتى أُجبر أخيراً على التنازل بعد تقديم الالتماس». واستدركت زهر: «صحيح أن القرار جيد لها، وأنها ستتمكن أخيراً من زيارة قبر أبيها الذي لم تره قط، لكن هذا لن يعوّض سنوات الحرمان والغصّة التي عانتها». ومع أن قبطي نجحت في كسر أوامر عسكرية فرضتها سلطات الاحتلال عليها، فإن فرحتها امتزجت بالقهر، فقد أنهكها المرض والإعياء وخانَتْها صحتها، إذ باتت في السبعين وتتحرك بمساعدة مقعد. تقول لـ«الأخبار»: «حاكمك ظالمك. هذا الجيش الذي قتل والدي سيرافقني بنفسه في زيارة قبره». وتضيف: «في 1948، اقتحمت القوات الإسرائيلية معلول. آنذاك، خرج سكانها خشية تنفيذ مجازر في القرية، وتوجهوا منقسمين إلى الناصرة ويافا الناصرة ــــ الجليل الأسفل المحتل، على أمل العودة قريباً ومجدداً... بينهم والدتي التي أنجبتني بعد التهجير بأسبوعين».
قبل أكثر من ثلاثة عقود، بدأت سلوى مرافقة القيادي الراحل، توفيق زيّاد، بصورة دائمة إلى معلول في إطار مشروع بدأته الحركة الوطنية في الداخل المحتل لزيارة القرى المهجّرة تحت عنوان «يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا». في ذلك الوقت، حاول زيّاد مراراً مساعدتها على الوصول إلى قبر والدها، إلا أنه لم يستطع أكثر من إيصالها إلى البيادر المحيطة. هناك، كانت تجلس وتردّد الأغاني التراثية والوطنية. وبعدما رحل زيّاد، استمرت في نضالها، محافِظة على زيارة توأم روحها. «أشهد أنني حر وحي حين أنسى»، تقتبس سلوى من شعر محمود درويش، لتقول إنها على العكس، «لم يحررها نسيانٌ ولم يحييها بعد المسافات». فهي منذ أنجبتها والدتها في أيام التهجير، لم ينقطع حبلها السُري مع معلول.