في أغسطس 2016، وقّع المفوض العام لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، بيير كرينبول، قراراً يقضي بـ«نقل ماتياس شمالي ليتسلم إدارة إقليم سوريا في الأونروا»، وذلك بعد مرور أقل من سنة ونصف على تعيينه مديراً عاماً للوكالة في لبنان منذ نيسان 2015، خلفاً لمايكل كنغسلي نيناه، الذي أنهى خمس سنوات من عمله، وهي المدة الرسمية لمهمات المدير العام للوكالة في أي من أقاليم عملها الخمسة، فلماذا لم يكمل شمالي ولايته المفترضة في لبنان، وما السر وراء نقله، وبالأحرى الإصرار على وجوده على رأس إقليم عمل؟بدأت مشكلات شمالي بعد شهر على توليه منصبه في لبنان، فقد أعلن كرينبول في مؤتمر في أيار 2015 وجود «تقليصات حادة نتيجة النقص في الميزانية». آنذاك، تسببت قرارات «الأونروا» بالتراجع عن تقديم الخدمات في أزمة حادة بين اللاجئين والوكالة، عُبّر عنها بطرق مختلفة خاصة في لبنان، من إقفال متكرر للمكتب الإقليمي في بيروت، واعتصامات في جميع المخيمات والمناطق، ومظاهرات ومؤتمرات وورش عمل وحراك متضامن، استمرت كلها لستة أشهر، وهو ما استدعى تدخل الدولة اللبنانية بشخص مدير الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، والأمم المتحدة ممثلة بمديرة فرع لبنان، سيغريد كاغ، من أجل تشكيل «خلية أزمة» تتعامل مع مرجعية تمثل الوجود الفلسطيني في لبنان بجميع مكوناته الشعبية والسياسية شُكّلت للضغط على «الأونروا» لتتراجع عن قراراتها.
حدثت لقاءات عدة في بداية الأزمة، في محاولة للوصول إلى حلول مرضية، وتم التوافق على الشراكة بين اللاجئين و«الأونروا» على أي قرارات مستقبلية تتخذها الوكالة، لكن شمالي عاد وخرق الاتفاق باتخاذه قرارات أحادية الجانب. فعلى سبيل المثال، اتخذ قراراً بسياسة استشفاء مع بداية 2016 لا تتناسب مع حاجات وقدرات اللاجئين، وبقي المبلغ المرصود للصحة هو نفسه، كما حول الخصومات إلى تفصيلات الصحة. أيضاً اتخذ الرجل، ذو الأصول العربية والجواز الألماني، قراراً آخر بتحويل عملية الحصول على المساعدات العينية لفئة «شبكة الأمان الاجتماعي ــ العسر الشديد» إلى بطاقة الصراف الآلي دون موافقة المرجعية الفلسطينية في لبنان، ثم ألغى 1800 وظيفة في «الأونروا»، واستطاع التحايل وتمرير تقليصات التعليم ما تسبب في أزمة كبيرة.
لم يولِ شمالي مذكرة المطالب التي قدمتها إليه القيادة السياسية المجتمعة في السفارة الفلسطينية لدى بيروت في أيار 2016 أي اهتمام، وهو ما أدى آنذاك إلى انهيار الحوار بين «الأونروا» واللاجئين. ويبدو أنه كان ملكياً أكثر من الملك، إذ استطاع تنفيذ سياسة الوكالة الدولية، وأثبت كل ما يريده سياسياً واجتماعياً، ولعب بصبر على التناقضات والخلافات ومرر المشروع بدهاء شديد، لكن قرار نقله إلى مخيمات سوريا اصطدم برفض دمشق تعيينه رغم بقائه فيها لشهرين.

قرار النقل بتفسيرات مختلفة
مع ذلك، أثار قرار نقل شمالي من لبنان​ إلى سوريا تفسيرات عدة من بينها:
رأت الفصائل والقوى الفلسطينية الممثلة بـ«خلية أزمة الأونروا» أن ما حدث تتويج لتحركها، مطالبة بتحسين وضع اللاجئين في لبنان، وأيضاً اللاجئين الذين نزحوا من سوريا إلى لبنان.
رجحت بعض المصادر السياسية الفلسطينية أن «هذه الخطوة ربما تكون التفافية من المفوض العام على الأزمة القائمة التي كان عنوانها شمالي، وبمجرد رحيله تبرد الأزمة وتخرج من التداول تدريجياً، وهنا كان من الخطأ حصر مشكلة التقليصات في شخص شمالي».
رأى آخرون أن عملية النقل ما هي إلا قرار بالإبعاد مغلف ببعض المديح والدبلوماسية، مرجحين أن ما دفع كرينبول إلى اتخاذ هذا القرار هو ما صرح به شمالي لفضائية «القدس» في آذار 2016، عندما قال إن «القيادة السياسية وخلية الأزمة لا تمثل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان»، وهو ما تعارض مع سياسة «الأونروا»، إذ جاء التصريح مناقضاً لأهداف الوكالة بـ«مد جسور الثقة والاحترام المتبادل».
ورد تفسير آخر على لسان المتحدثة الإعلامية باسم «الأونروا» في لبنان آنذاك، زيزيت دركزلي، قالت فيه إن «المفوض العام للأونروا بيير كرينبول، طلب من شمالي تسلّم منصب مدير الأونروا في أسخن منطقة لعمليات الأونروا ألا وهي سوريا، بعدما كُلف المدير العام في سوريا بمهام أخرى، لأن شمالي موضع ثقة لدى المفوض العام»، موضحة أن «مدة مهامه في لبنان لم تنته لكن حصل وضع استثنائي»، مؤكدة أنه «تم نقل شمالي بناءً على طلبه، إذ يعتبر القرار ترقية له، وليس كما يدعي البعض أن النقل تم بسبب فشله في إدارة الأزمة».

الرفض السوري
ذكرت مصادر سياسية، سورية وفلسطينية، في أحاديث إلى «الأخبار»، أن دمشق رفضت استقبال ماتياس شمالي ليشرف على عمليات الوكالة لديها من دون أن تبدي الأسباب، التي قدّرت أنها أمنية، لكن هذا لم يضع الرجل جانباً، إنما تقرر نقله إلى قطاع غزة. وبعد أسبوع واحد من وصوله إلى غزة، تولى منصب المدير الجديد لعمليات «الأونروا» هناك في تشرين الأول 2017، عندما كان الفلسطينيون منشغلين باتفاق المصالحة الأخير بين «فتح» و«حماس».
منذ توليه المنصب «الثالث»، أعلن شمالي قبل بداية كانون الأول الماضي أن وكالة الغوث لن تتمكن من دفع رواتب موظفيها عن كانون الأول 2017 إن لم يسدَّد العجز المالي الذي وصل إلى 60 مليون دولار. وفعلاً، قررت وكالة الغوث مع بداية 2018 إجراء حالة تقشف قاسية لمدة عشرين يوماً من تاريخ 11 كانون الثاني حتى بداية شباط اللاحق، يليها تقييم الوضع لتحديد ميزانية العام. وشملت تلك الإجراءات التي حرص شمالي على تنفيذها بحذافيرها رغم الاعتراضات: وقف التوظيف اليومي (التعاقد) باستثناء الأساتذة الضروريين وبعض موظفي الصحة، وقف دفع بدل الدوام الإضافي وبدل السفر (التذكرة) إلا باستثناء، وتكاليف السفر (الإقامة وغيرها) إلا باستثناء.
على صعيد ملف التوظيف، تقرر وقف تعبئة الفراغات والشواغر وتثبيت الموظفين، إذ أوقفت عقود البطالة، وأنهيت عقود نحو 100 مهندس على بند العقود المؤقتة كانوا يعملون منذ 10 سنوات لدى الوكالة فجأة، كما تقرر إيقاف مشتريات الوكالة إلا للضرورة القصوى. أيضاً، قررت الوكالة تقليص مدد عمل عياداتها الصحية في غزة إلى دورية واحدة بالإضافة إلى تقليص الأدوية خاصة لمرضى السكري والقلب، مع أنها عالية التكلفة على اللاجئين. وخلال الشهور الأخيرة، شهدت خدمات «الأونروا» في غزة تقليصات طاولت برنامج المساعدات الغذائية، الأمر الذي أثر في الأوضاع المعيشية المتدهورة أصلاً، لكنها رُبطت أخيراً بقضية التمويل تنفيذاً لخطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في المنطقة، رغم أن أصل الإجراءات كان منذ ثلاث سنوات.
بالحديث مع مصادر سياسية وأمنية في غزة، فإن لدى الفصائل علماً بما يجريه شمالي وسوابقه في لبنان، لكن الإشكالات الكبرى المتعلقة بالحصار الإسرائيلي والضغط المصري وعقوبات السلطة الفلسطينية «لم تدع مجالاً لفتح مشكلة جديدة مع الأونروا... نرى في ماتياس ضابطاً تنفيذياً، وما الإصرار على تعيينه في المناطق الحساسة، بدلاً من وضعه في الأردن أو الضفة مثلاً إذا كانت القضية قضية إرضاء له، سوى عزم من الأونروا على تطبيق خطة تحتاج إلى شخص مثل شمالي لتنفيذها».