ترك ندبة في عقل ما أو أثر بالأصح، أهمّ أحياناً من قتل شخص ونسيانه تحت حفنة تراب. صحيح أن الكاريكاتوريست ناجي العلي مات جسداً، لكنه ما زال حياً بفكرة تركها فينا ولنا، علّمت وعينا كفلسطينيين وعرب. وبهذا المعنى، جسد الراحل يتحرر على الأقل مرتين في العام: ذكرى ميلاده وذكرى استشهاده. وفي كل مناسبة من كلتي المناسبتين، اللتين يتوسع أثرهما والتفاعل معهما عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يعود ناجي إلينا تاريخاً زاخراً، ومزخرفاً برومانسيات الحرب. ويعود الصوت العذب لناجي العلي وابنه الأبدي حنظلة. فلا يمكن فصل ناجي عن حنظلة أو العكس، كلاهما دليل على الآخر.
حياة ناجي العلي لا نعرف عنها الكثير، بقدر ما نستخلصها من رسوماته التنويرية، والناقدة، وهي ما تجعلنا أقرب إلى المتخيلين في تصوّر حياته الشخصية والفنية كإنسان خارج السياق ومتطرف في حبه للوطن، دائم القلق وكثير التدخين، ولا يمكن الجزم بإمكانية إعادة تمثيل شخصيته بأي شكلٍ كان. فالعلي خلّف لنا مشروعاً فنياً فكرياً كاملاً، يشجعنا على الانتفاض كلما شاهدنا رسوماته، لا يمكن أن نرى أعماله من دون أن نسحب نفساً عميقاً يخترق المعدة، متحسّرين على حياتنا وماضينا، فهذه الطاقة الكامنة سر من أسرار ناجي إضافة إلى قراءته الزمنية للأعمال.
في الآونة الأخيرة قامت "قناة الميادين" العربية، بتقديم رسوم متحركة لأعمال ناجي العلي، وهي تأخذ بعضها من أعماله الأصلية بتصرف، وإذ تشكل هذه الأعمال نموذجاً متجدداً في صياغة أعماله لتواكب روح العصر بعد سبعة وعشرين عاماً من وفاته، ما يعكس رؤيته الفكرية وقدرته على تجاوز فكرة الموت والخلود في إنجازه الإبداعي، فأعماله النقدية والصارخة المعبّأة بالصور المُتَخيَّلة والواقعية في آونة واحدة التي اعتدنا عليها، تعود الآن في قالب مختلف يستلهم حضوره من ممارسات، للأسف، ما زال يعج بها الواقع السياسي، ومهما حاولنا وصفها بالغباء فلا يمكن التعبير عنها بالقدر الذي عالجه صاحب شخصية "حنظلة".
ما يلفت الانتباه في مشروع "حنظلة" تحريك شخصية حنظلة نفسه، وتحريكه ليكون مشاركاً أساسياً في كثير من الأعمال، إن كان من خلال عملية الاحتجاج أو غيرها، وهي تستنطق روح الشهيد ناجي العلي من ناحية، كما أنها أحيت شخصيته الواقفة كشاهد دائم على عناصره الكاريكاتورية.
حنظلة الجديد والمتحرك، نرى وجهه الذي أخفاه ناجي عنّا دائماً، رسومات حنظلة المتحركة تفتح عيوننا في كل حلقة على اكتشاف ما ستنقله الفكرة إلينا، بين الحفاظ على منهجيتها التي قدمها لنا ناجي، وبين ما نتصوره كمتلقين، وبناء شكل مترابط بين هذه الرسومات نفسها، أو بينها وبين رسومات أخرى يتم جمعها في إطار العمل المتحرك الجديد.
أراقب طفليّ وهما يشاهدان هذا البرنامج، ليفتحا معي نقاشاً بعد كل مرة: ماذا يقصد ناجي في هذه الرسمة، أو هذه الصورة؟! ويدفعاني لفتح النقاش معهما، وسؤالهما عمّا فهماه، لأتدخل لاحقاً وأضيف بعض الكلمات التي تكرّس مفهوم المقاومة ولو بأضعف الإيمان (اللسان والقلب).
لا يمكن التقليل من شأن هذه الأعمال التي تختصر الزمن وتعيد إحياءه أو انتقاده في دقيقة من الزمن، هي أكثر من قصة مكتوبة أو فيلم روائي، تستطيع أن تفهم الواقع وعلاقته بالماضي من خلال صورة متحركة، وتفتح النقاش على مصراعيه مستذكراً ومارّاً بتاريخ القضية وإعادة تقييمها مع التحسّر الكبير الذي يحاصرنا الآن.