هذا هُو التاريخ إذاً 8/7/1972، كَانت الطلقة الحاقدة التي أصابت الجسد قد أخطأتِ الروحِ وتركت أثر الدم مِلء المكان وَلكنَّ الكَلام لا يَزالُ في تكوين الفكرة، فكرة الوطن وفكرة الحريّة التي هي نفسها المقابل وهي التي هزمت كُلّ الطلقاتِ الحاقدة في زمن الإبادةِ، إذاً كانَ غسّان وَصار غسّان الكامل بالفكرِ الصلب الذي يأبى الانكسار والنسيان في حضرةِ موتهِ، ومن جيلٍ إلى جيلٍ يولدُ فينا غسّان ويعيدُ ترتيب الدّرس كمدرسٍ وكمناضلٍ مُدافعٍ عن حقّ اللاجئين في العودة وترويضِ وحش اليأس والبؤسِ، هكذا عَرفتُ غسّان وقرأتُ عنهُ ابن كل مُخيم وابن فلسطين الواحدة التي لا حدود لها كما هي في الروايةِ والحكايةِ واللوحة والقصة القصيرة هي نحن بكل تفاصيلها والقضية، غسّان القضية التي ما زالت تحيا فينا، في كُلّ عامٍ يَمرُّ يتجدّدُ فكر غسّان فينا ويبعثُ فينا طمأنينة الوطن وطمأنينة الأمل المرابط في سبيل حُلمٍ نحترمهُ.
عشْتُ في فكرهِ منذُ الصغر حيث كانت أُمنيتي أن أكون فارساً كفروسيتهِ وهو عائد إلى حيفا في خيالهِ الجامح نحوها وعائد إلى أرض البرتقال الحزين التي مَا زالت تنتظرهُ في كلّ "تمّوز " يأتي، وهو قادمٌ إليها ثانيةً مع آلاف الشُهداء الأحياء، من قبرهِ في شاتيلا يزداد الحلم ضوءاً ساطعاً حين يحتشد أطفال المخيم كي ينشدوا لهُ نشيد البلاد ونشيد المقاومة وبداياتها التي ما زالت تولدُ وتولدُ حتى يومنا هذا، من غزّة إلى القدس إلى كلّ السجون حتى آخر الشهداء بالأمس حين ودّعناهُ على باب القدس وهو يعانق الغروب إلى شروقٍ آخر، لا يزالُ الماضي يا مُعلّمي يعانقُ الحاضر حيث لا حاضر لنا بلا ماضٍ لكي نصنع من فِكر الشُّهداء غدنا المنتظر، من قبركَ في شاتيلا يجتمعُ المخيم في حضرة الكلمات الأولى لأنّكَ ما زلت تروي روايتهم الحاضرة بيننا ومثلك أيُّها الحاضر الأول وأنت تملك الروح التي هزمت الطلقة حين مرّت كالغريبة ولكنّها لم تصب أيّ عضوٍ فيك بل عبرت خرساء من حقدها الجامح، هل يموت مَنْ يحلم؟ هل يموتُ حلمهُ الكامل؟ ومنْ كتبَ الحكاية كُلّها هو لا يزالُ يُوثّق تاريخ التراب في كتاب الذاكرة، ولا يزالُ على قيد القراءة والقهوة والواجب الوطني، مثلُك تماماً بحجم الوطن/ الأسطورة المتشبّث بالحصان الأبيض والكوفيّة وفلسطين التي تزهو بالألوان والمعنى، فلسطيننا الحمراء/ البيضاء/ السوداء/ الخضراء كالروح تضيء ليلنا الدّامي، لا تقل لنا ما قلتهُ بالأمس إنّ كلماتكَ ما زالت تقرع جدران القلب وتينعُ في ما تبقى فينا من وعي، فلنسمع إذاً ما هو الأجدر لنا أن نُغيّرَ، لا أن ندمن خطأ المدافعين عنها، لعلّنا ندركُ نشيد الصواب في مسيرتنا اللاهثة وراء ظلام المصير، يا غسّاننا الحي لا تقل شيئاً إنّكَ الناطق المستمر فينا، بلا ألمٍ يُعكّرُ صفو اللقاء، بل إنهُ الفكر نغرسهُ لنحصُدَ قمح البقاء، لا تقل ما قلتهُ لنا لأننا فقدنا أجمل ما فينا وخير ما فينا، فقدناكَ ولكنّنا احتضنا معناكَ في حادث الموت السريعِ أو الاغتيال العابر الذي أخذك جسداً ولكنّهُ أخطأ في اسقاط الكلمة واللوحة البيضاء كالحمامة عن حائط الروح، روحك العالية/ قلمك الصاهل/ شمسكَ المشرقة/ بحركَ الواسع ، كلُّ شيءٍ فيكَ أقوى من لحظةِ الانفجار، سيّدي يا شهيد اللغة الحبلى بالوطن، مُعلّمي أيّها النشيد المدوّي دوماً على طريق الجلجلة، لا تقلق على الحكاية هي ما زالت تمتدُّ بالمعاني حتى حدود الحرية، لا تقلق على زمنٍ أجدنا العيش فيهِ رغم طيش الانفجارات والشعارات، رغم الضياعِ والتيهِ والسبيِ والغدر، أحقّاً نحن الحكاية؟ أحقّاً نحن الضحيّة التي أدمنت نار السوط ولم تحترق؟ لأنّها لا تريدُ الخضوع للجلاّد الذي لا يَزالُ يُصرُّ على إغراق الجسد في هوّةِ الدم، إذاً أنت لست وحدكَ بل أصبحت الجماعة/ القضية التي كتبت ذاتها من ذاتها وليس عن ذاتها لكي تستطيع أن تكون المرآة لشعبٍ يُناضلُ من أجل استعادة صورته المفقودة في الحرب، وما هذا الغياب إلّا حضور كامل لروايتنا التي نحن أبطالها الخالدون، وما هذا الغياب إلّا رمز أو شاهد على ما حلّ فينا هنا أو هناك وفي الحالتين نحن الغرباء العائدون إلى أحلامنا والحنين كّلّما مررنا من كلماتكَ سافر بنا الشوقُ إلى سور عكّا على أجنحةِ الرجوع الذي لا رجوع عنهُ، ولا بديل لنا سوى الحنين إلى كومةٍ من حنين التراب.
"غسان كنفاني" أيُّها العصي على الفناء ككتاب الأسطورة، كالملحمة الخالدة في ضمير البشرية، كالطفولة البريئة الحالمة بالغد الآتي في الحياة.