محمد بدير
القنبلة النووية الإسرائيلية، أكبر إنجازات الدولة العبرية، التي تواطأت ضمناً مع العالم أجمع على إبقائها سراً تجنباً للأسوأ، لا تزال أعصى الملفات على الحل، يُفتح بين الفينة والأخرى، لكن سرعان ما يتم إغلاقه. تسعى «الأخبار»، في ما يلي، إلى إلقاء الضوء على هذا المشروع، من بداياته، وعلى سياسة «الغموض النووي»، التي اعتمدتها إسرائيل «ارتجالاً»

أثارت «زلة اللسان النووية» لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، الأسبوع الماضي عاصفة من الردود داخل إسرائيل، هاجمت ما اعتُبر خروجاً عن سياسة «الغموض النووي» التي تنتهجها تل أبيب منذ نحو نصف قرن، أي منذ الكشف عن برنامجها النووي مطلع ستينيات القرن الماضي.حدة ردود الفعل، التي وصلت إلى درجة دعوة أولمرت إلى الاستقالة، عكست مدى أهمية هذه السياسة ومحوريتها في دائرة الأمن القومي النووي الإسرائيلي، بالمستوى الذي اعتبر معه المسّ بها تعرضاً لقدس من أقداس «الهيكل» الأمني الإسرائيلي ومخاطرة في زعزعة حجر الزاوية فيه.
تمكنت إسرائيل على مر عقودها النووية الخمسة من تطوير «سياسة الغموض» بطريقة سمحت لها بأن تكون عضواً غير رسمي في النادي النووي يتمتع بالامتيازات الاستراتيجية التي تمنحه إياها هذه العضوية، من دون أن تضطر إلى دفع الأثمان المقابلة لذلك، إن على مستوى القيود والضوابط الرقابية التي يفرضها هذا الموقع عادة، أو على مستوى التبعات المفترض ترتبها على ذلك في البيئة الإقليمية المحيطة، لجهة إطلاق سباق تسلح نووي مفتوح الأفق.
في ما يأتي إطلالة على مسار تبلور هذه السياسة وخصائصها، يسبقها سرد موجز لأبرز المحطات التاريخية التي مر بها البرنامج النووي الإسرائيلي.
مصنع النسيج مفاعلاً نووياً
بدأت قصة البرنامج النووي الإسرائيلي في شهر تشرين الأول عام 1956، عندما اتفقت كل من باريس وتل أبيب، على هامش مؤتمر «سيفير» في فرنسا، الذي وضع اللمسات الأخيرة للعدوان الثلاثي على مصر، على الشروع بمفاوضات ثنائية حول مساعدات نووية أرادت إسرائيل الحصول عليها من حليفتها الأوروبية، بل والدولية، الأولى في ذلك الوقت. استمرت المفاوضات لمدة عام، وتُوجت في تشرين الأول 1957 بسلسلة اتفاقات فائقة السرية تناولت بالتفصيل أشكال المساعدة النووية الفرنسية التي تقرر تقديمها لإسرائيل. وبموجب هذه الاتفاقات، التزمت باريس مدّ تل أبيب بالمعونة اللازمة لتشييد بنية تحتية لمنشأة نووية، تشمل مصنعاً لفصل البلوتونيوم، وهو ما كان إشارة واضحة الدلالة إلى البعد غير المدني لهذا المشروع.
انطلقت ورشة البناء في منطقة ديمونا جنوب إسرائيل منتصف عام 1958، وأسدل على المشروع، الأضخم في حينه في الدولة العبرية، ساتر إعلامي عنوانه «مصنع نسيج». إلا أن فاعلية الساتر لم تدم طويلاً، ففي كانون الأول عام 1960 فجّرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية قنبلة سياسية كشفت فيها القصة الحقيقية لما يجري في ديمونا، استناداً إلى معلومات وفرتها طلعات جوية استخبارية لسلاح الجو الأميركي. بعد أيام قليلة، اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، دافيد بن غوريون، إلى الاعتراف، في خطبة أمام الكنيست، بأن حكومته تبني في ديمونا منشأة للأبحاث النووية «للأغراض السلمية»، تشمل مفاعلاً بحثياً طاقته الإنتاجية 24 ميغاوات.
في أواخر عام 1962، دخل الجزء الأكبر من منشأة ديمونا حيز العمل، لكن دورها في الأعوام الخمسة التالية اقتصر، بفعل ضغوط أميركية، على إبقائها تجسيداً لخيار إسرائيلي نووي كامن، لم يجتز عتبة العسكرة بعد. وفي مطلع عام 1978، أفادت تقارير إعلامية بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لديها معلومات تفيد بوجود إسرائيل في فترة «زخم» نووي، ثم لاحقاً عجّت الصحف العالمية بأخبار تحدثت عن تحول إسرائيل إلى «دولة نووية». ووصلت هذه الموجة الإعلامية ذروتها مع تسريب صحافي مصدره وكالة الاستخبارات الأميركية «سي اي ايه» أكد أن إسرائيل أصبحت تملك قنبلة نووية، أو على الأقل مركبات تصنيع قنبلة كهذه. ومع هذا الخبر ــ الإعلان أصبح التعامل مع السلاح النووي الإسرائيلي أشبه بتسليم بحقيقة ناجزة.
في 22 أيلول عام 1979، رصدت أقمار اصطناعية ومراصد أخرى متخصصة وميضاً فوق جنوب المحيط الهادئ، رجحت تقارير إعلامية لاحقاً أنه ناجم عن تفجير نووي اختباري إسرائيلي، وهو ما أكده نائب وزير خارجية جنوب أفريقيا عام 1997، عزيز بهاد، وفقاً لما نقلته عنه إحدى الصحف الإسرائيلية في حينه. إلا أن المحطة الأبرز في سياق الكشف العلني عن البعد العسكري للبرنامج النووي الإسرائيلي كانت في الخامس من تشرين الأول عام 1986، عندما نشرت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية، وعلى مساحة ثلاث صفحات، صوراً ومعلومات دقيقة ومفصلة تمكن الفني الكهربائي السابق في منشأة ديمونا، مردخاي فعنونو، من توثيقها وتهريبها، في ما اعتبر أقسى ضربة تعرض لها أمن المشروع النووي الإسرائيلي على الإطلاق.
«الغموض»: أسلوب عمل واستراتيجية مناورة
يمكن اختصار مفهوم «سياسة الغموض»، الذي تعتمده إسرائيل موقفاً ارتكازياً في استراتيجيتها النووي، بعبارة شهيرة، يُطلق عليها في الأدبيات الإسرائيلية «صيغة أشكول» (رئيس وزراء إسرائيلي أسبق). وبحسب هذه الصيغة، فإن «إسرائيل لا تنفي ولا تؤكد وجود مشروع نووي لديها، لكنها تلتزم أنها لن تكون الدولة الأولى التي تدخل السلاح النووي إلى الشرق الأوسط». ويُقال إن أشكول دأب في المجالس الخاصة على زيادة عبارة إضافية إلى هذه المقولة، هي: «لكنها أيضاً لن تكون الثانية».
المفارقة أن هذه المقولة، التي تحولت إلى سياسة رسمية وراسخة لحكومات إسرائيل المتعاقبة على مدى العقود، وُلدت ارتجالاً، من دون تفكير أو تخطيط مسبق. وقصة ولادتها تعود إلى زيارة رسمية كان يجريها المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية في حينه، شمعون بيريز، للبيت الأبيض في الثاني من نيسان عام 1963، هدفها التفاوض على إبرام صفقة سلاح تشتري إسرائيل بموجبها صواريخ مضادة للطائرات الأميركية الصنع. وعلى نحو مفاجئ، طلب الرئيس جون كنيدي ترتيب لقاء عاجل معه، سأله فيه عن الجهود النووية الإسرائيلية، في سياق المتابعة الأميركية القلقة لتطور القدرات النووية في المنطقة والعالم. أجاب بيريز، الذي فوجئ بالسؤال، ارتجالاً، بالعبارة الشهيرة تلك. وأشار بيريز لاحقاً إلى أنه كان يهدف من خلال إجابته، إلى الالتفاف على ضغوط قد يمارسها الرئيس الأميركي من جهة، وإلى الحؤول دون إلحاق الضرر بالعلاقات الأميركية ــ الإسرائيلية من جهة أخرى.
وهكذا تحولت عبارة ارتجالية إلى ركن محوري في الاستراتيجية الإسرائيلية النووية، بعدما أدرك صناع القرار الإسرائيليون أنها تنطوي على المقاربة المُثلى لتقديم مشروعهم النووي على المستوى الإقليمي والدولي، من دون الوقوع في حرج سياسي لا يُحتمل.
وتقوم «سياسة الغموض» النووي الإسرائيلي على دعامتين أساسيتين: تحقيق مفاعيل الردع النووي في مواجهة الأعداء من جهة، من دون الاضطرار إلى دفع الأثمان المترتبة على الانتماء العلني إلى النادي النووي من جهة أخرى؛ فعبر «سياسة الغموض» هذه، تمكنت إسرائيل من تطوير ازدواجية انفصامية للتعامل مع التعقيدات الدولية في المجال النووي: فهي دولة نووية على صعيد القدرة الواقعية وميزاتها الردعية، وغير نووية على صعيد الكِلَف المترتبة على ذلك لجهة القيود الرقابية الدولية أو لجهة تداعيات إدخال السلاح النووي إلى البيئة الشرق أوسطية.
إلا أن الغموض، الذي تحول مع الوقت إلى استراتيجية مناورة على المستوى الدولي، بدأ أسلوباً في العمل هدفه الوصول إلى القدرات النووية من دون الاعتراف بذلك، حتى على المستوى الداخلي؛ فالخيار النووي الإسرائيلي كان، في سنواته الأولى، موضع تجاذب بين معسكرين داخل إسرائيل، مؤيد ومعارض؛ ورأى المعسكر المعارض أن مصلحة إسرائيل تكمن في إبقاء الشرق الأوسط خالياً من السلاح النووي، لأن إدخالها إياه إلى المنطقة سيُطلق سباق تسلح نووي من جانب أعدائها، الذين لا تكافؤ بينها وبينهم على الصعيد الجيوديموغرافي في معادلة الردع النووي المتبادل.
لذلك، فضّل صانعو القرار النووي في إسرائيل إبقاء المشروع النووي في الزاوية المعتمة التي تسمح لهم بالمضي فيه من دون جعله عرضة للنقد. ومع الوقت، تحول الغموض إلى نوع من أنواع التسوية بين المعسكرين: فالمؤيدون، في كل الأحوال، لم يتمكنوا بعد من إعلان تحول إسرائيل إلى قوة نووية عقب إقرار معاهدة (NPT) عام 1968، واعتبروا الغموض وسيلة للتقدم في المشروع النووي مع حد أدنى من العرقلة، فيما اكتفى المعارضون بصيغة أشكول التي رأوها ضمانة لعدم اجتياز العتبة النووية، علناً على الأقل.


آباء القنبلة الإسرائيلية

يُعدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، دافيد بن غوريون، الأب الروحي والمنظّر الرئيسي للقنبلة النووية الإسرائيلية، حيث كان يرى فيها الضمانة الأساسية لأمن إسرائيل ووجودها، في ظل التفوق العربي على مستوى القوة التقليدية. وقد عهد بن غوريون بالجوانب الإجرائية في بلورة المشروع وتنفيذه لاثنين من أخلص الشخصيات له وأوثقهم به علاقة وثقة: الأول هو شمعون بيريز، الذي شغل منصب المدير العام لوزارة الدفاع في حينه، وكان الشخص المسؤول عن إدارة المفاوضات مع الفرنسيين، والتي أثمرت اتفاقات التعاون النووي عام 1957. وإذا كان بيريز يُعدّ لذلك الأب السياسي للقنبلة النووية الإسرائيلية، فإن الأب التقني لها هو آرنست دافيد برغمان، المستشار العلمي لوزارة الدفاع ورئيس لجنة الطاقة النووية في إسرائيل منذ تأسيسها مطلع الخمسينيات حتى منتصف الستينيات، وهي الفترة التي قطع فيه البرنامج النووي الإسرائيلي شوطه الأكبر ووصل مرحلة النضوج. أما وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه ديان، فيُحفظ له دوره المحوري في دفع «الخيار النووي» الإسرائيلي، بعد حرب عام 1967، من طور الاستعداد الكامن إلى حيز التفعيل العملي، في ما عُرف باستراتيجية «القنبلة في القبو».



المشروع الأكثر سرية

منذ إطلاقه، انحصرت المتابعة السياسية والإجرائية للمشروع النووي الإسرائيلي بوزارة الدفاع ومكتب رئاسة الوزراء، وعُزلت الحكومة، بتشكيلتها الموسعة أو الأمنية المصغرة، عن أن تكون ساحة للنقاش أو اتخاذ القرارات بشأنه.
بدروها، تم إقصاء الكنيست عن ممارسة أي دور رقابي في هذا المجال، وقُصر الإطلاع على البرنامج النووي ومواكبته على لجنة فرعية سرية منبثقة عن لجنة الخارجية، بدأت بممارسة مهامها بهذا الخصوص متأخرة، أي منذ بداية التسعينات. أما مهمة الحفاظ على سرية المشروع وقمع أي تسريب حوله ومحاصرة أي نقاش علني بشأنه، فأنيطت بالرقابة العسكرية التي فرضت تعتيما إعلاميا مشددا وصل حد حظر استخدام عبارات محددة في المنشورات الإسرائيلية، كعبارة "قنبلة نووية"، واستعيض عنها بعبارة "الخيار النووي".
حتى السياسيين الإسرائيليين المعنيين، امتنعوا عن التطرق للموضوع علنا، وفضلوا على الدوام أساليب المداورة والإلتفاف في تناوله؛ واشتهر في هذه المجال شمعون بيريز الذي دأب في خطبه على استخدام عبارات مثل "التفوق النوعي" و"الأساس التقني" في معرض التلميح إلى النووي الإسرائيلي.



شركاء الصمت

لم تكن إسرائيل، برأي مراقبين، لتتمكن من النجاح في تطبيق سياسة الغموض على مدى عقود من دون شراكة صامتة من الجهات الدولية والإقليمية المعنية. فقد رأت هذه الجهات، بعدما اقتنعت باجتياز إسرائيل للحافة النووية، أن التسليم الضمني بسياسة الغموض هو المخرج الوحيد الذي يُحِلُّها من خطوات وإجراءات ستجد نفسها مضطرة لاتخاذها في ما لو تبنت موقفا سياسيا علنيا يعتبر أن إسرائيل تملك سلاحا نوويا؛
فالأميركيون فضّلوا الغموض على الشفافية لأن الأخيرة كان من شأنها أن تطعن مصداقية الولايات المتحدة في موضوع حظر الإنتشار النووي الذي كانت هي عرابّته الأولى، ذلك أن التعاطي مع إسرائيل على أنها دولة نووية كان سيحرج واشنطن لجهة دفعها إلى ممارسة الضغوط على حليفتها من أجل الإنضمام إلى معاهدة حظر الإنتشار (NPT) التي شكلت ذروة الإنجازات الأميركية على هذا الصعيد أواخر الستينات. وهكذا، بات الغموض الإسرائيلي النووي مصلحة أميركية من حيث توفيره الشروط المناسبة لواشنطن للتغاضي عن الإستثناء الإسرائيلي لنظام حظر الإنتشار ضمن اتفاق ضمني تتعهد الدولة العبرية بموجبه بعدم إجراء أية تجربة نووية أو إطلاق مواقف تحرج حليفها الأكبر على هذه الصعيد.
أما الإتحاد السوفياتي، فقد وجد في سياسة الغموض الإسرائيلية ملاذا يقيه التعرض لضغوط مباشرة قد يمارسها عليه حلفاؤه العرب، في حينه، لمساعدتهم في تأمين "خيارهم النووي الخاص" الوازن للخيار النووي الإسرائيلي، أو على أقل تقدير، لإعطائهم ضمانات نووية واضحة تُعدِّل الإختلال الحاصل في موازين القوى الإقليمية.
بدورها، كان للدول العربية مصلحة واضحة في الغموض النووي الإسرائيلي، الذي أتاح لها التملص من التسليم بموقع الدونية الإستراتيجية في مقابل تل أبيب، ووفر لها مبررا لقصورها النووي.