برشلونة | كلما شعرت بالضيق احتجت إلى مكان روحي أذهب إليه لأشعر بالسكينة. لا أدري لماذا توجهني قدماي دوماً إلى الكنيسة رغم أني مسلمة. لطالما تساءلت، ما علاقتي مع هذا المكان؟ أنا فلسطينية الأصل وإسلامية المنشأ...بدأت قصتي مع الكنيسة منذ اجتاحتني غربتي الجديدة، حين وجدت نفسي في مكان لا أنتمي إليه، ولم تربطني به يوماً ذكرى ولا أمنية..

ففي المدن الغريبة تفتش عن ذاتك وتبحث عن تفاصيل تربطك بالمكان، ترى نفسك تتجول في الأماكن التي تشبه مدنك أو تلك التي جاورتها بالعراقة والقدم، تغوص باحثاً عن جذور ما لترتشف منها بعضاً من بقائك، وتدرك بعد محاولات كثيرة أن جذورك لن تكون هنا ولن ترويك رؤية الشوارع المشابهة لمدنك القديمة.
في الكنيسة أتلمس بعضاً من جذوري واستجدي هناك قليلاً من سكينتي، وذلك تحديداً في أكثر الزوايا فقراً، في المكان البعيد عن الزينة والزخرفات...
هل حقاً أنا أنتمي إلى الكنيسة؟؟
سيدة مسنّة التقيها تكراراً كلما ذهبت إلى كنيسة سانتا ماريا ديل المار، ـ الكنيسة التي وضع الحجر الأساس لها الملك ألفونسو الرابع لإقليم أراغون عام 1329 ـ هذه السيدة كانت تلقي تحيتها عليّ في كل مرة نلتقي فيها، وفي كل مرة تبرق في عينيها علامات تعجب واستغراب، لكنّ شيئاً ما كان يمنعها من طرح تساؤلاتها عليّ، إلى أن كبر حجم التساؤلات في مخيلتها وفشلت في مقاومتها وبادرتني بها:
ـ أراك تأتين بنحو متكرر إلى هنا، ولم أرك يوماً تصلين، أو تشاركين في قداسات هذا المكان. هل تحتاجين إلى المساعدة في تعلم الصلاة؟
تفاصيل جديدة ظهرت في ملامح وجهها ماحية الخطوط التي تركها الزمن على جبهتها وتاركة عوضاً عنها مساحات من التعجب والاستغراب حين سمعتني أقول:
ـ أنا مسلمة...
ولأني أدركت أن إجابتي تحتاج إلى استفاضة في الشرح، ورحمة بتلك العجوز ذات الملامح السمحة، ووجهها الذي يشبه الصبح المشرق، أردفت إجابتي: أنا فلسطينية. أنا ابنة المسيح.. تجري في عروقي نفس دمائه، أملك لون بشرته السمراء، أنصلب كل يوم على مرأى من العالم، وكل يوم يتحمل شعبي بمعاناته في مخيمات اللجوء وفي الشتات وفي أرض الحقيقة فلسطين، يتحمل آلام البشرية جمعاء. دروبي مليئة بالحفر، أطفال شعبي مكللون بالأشواك، وكل يوم ينزفون جوعاً وعطشاً وحزناً واغتراباً. أحمل مفتاح عودتي كما حمل أبي صليبه، وأرجم كل يوم بقرار دولي أو اتفاقية جديدة كحدّ يطبّق عليّ كي أوقع المفتاح، وبعد كل ذلك أقوم... أعيد حادثة القيامة كل يوم، مع كل صباح أتجدد، أقوم لأثبت للكون أن رسالتي خالدة وأنني ابنة الأصل، وأنني الحقيقة...
غصت بعيداً في ذاتي باحثة عن تفسير لعلاقتي مع هذه الكنيسة ومع جميع الكنائس التي أفضّل زيارتها عن الأماكن السياحية، وحتى عن المساجد المنتشرة في إسبانيا، والتي تحولت إلى متاحف يؤمّها السياح من كل مكان في العالم.
حقيقة الأمر أني لا أنتمي إلى تلك الكنيسة ولا إلى غيرها، لكني أشعر برفعة التكوين. بعد انحنائي لقدسية المكان، أتلمس جدرانه وهي تنحني لتكويني وتستمد من دمي بعضاً من صدقها، فأنا ابنة الأصل وابنة التراب الذي صنع لها تاريخها، فجميع الزخرفات التي يصنعها الغرب في كنائسهم، وكل هذا الإبداع في الصنع، جاء ليعوّض إحساسهم بالزيف، وبعدهم عن أصل الحكاية.
عندما زرت كنيسة المهد في بيت لحم عام 2012، شممت في تكوينها عبق الحقيقة، صدق الحكاية، وصفاء الأصل، لذلك لا نرى في كنيسة المهد بهرجاً زائداً، ولا تحفاً فنية نادرة في الفن المعماري؛ فكنيسة حديثة المنشأ في أيّ قرية صغيرة في أوروبا قد تملك من الفن في التصميم والإبداع في الصنع ما يفوق كنيسة المهد بعشرات المرات، لكنها تبقى مجرد حجارة مزينة يمر فيها المصلون طلباً لله، أما في فلسطيني أم الحكايات، فتكتفي الحجارة بالتواضع أمام صدق الرواية وبتولتها.
وبعد.. حضنتني السيدة المسنّة، وباركتني، ثم تركت قبلة على جبيني وعادت إلى تلاوة صلواتها ذاكرة اسم فلسطين بعد ذكر الله...