تابعَ بعض القراء مساجلاتي مع جلبير الأشقر قبل أكثر من سنة، بشأن موضوع كتابه «العرب والمحرقة النازيّة»، وكان ذلك قبل قراءتي للكتاب. أبديت اعتراضي يومها على ما قرأتُ من مقولات للكاتب في صحيفة إسرائيليّة، وفي غيرها. ولم يكن الرفيق خالد صاغيّة يحبّذ هذا السجال، لاقتناعه بأنّ الخلاف في صف اليسار لا يجوز أن يستعر، لكن الخلاف عكس اقتناعات متضاربة، تفصل بين رؤيتيْن متعارضتيْن في النظرة العربيّة (أو الإنسانيّة) بالأحرى إلى المسألة اليهوديّة، وإلى الصراع مع إسرائيل. والموضوع يحظى باهتمام غربي فائق: هناك مؤسّسات ومراكز صهيونيّة متخصّصة، مثل مركز «ممري» السيّّئ الذكر، تتخصّص في رصد كل الأقوال والرسوم المُعادية لليهود واليهوديّة بالتعريف الصهيوني السياسي، الصادرة عن عرب ومسلمين. تنتابني مشاعر متناقضة حول الكتاب: أقدّر الجهدَ البحثي الذي كرّسه المؤلّف، كما أنّني أقدّر قوّة الحجّة التي ساقها لدحض الأقاويل والمزاعم الصهيونيّة بشأن موضوع الحاج أمين الحسيني وموضوع «لاساميّة العرب»، كما أنّ الكاتب أحسن إبراز التناقضات التي ترد في كتابات صهيونيّة، وخصوصاً في كتابات برنارد لويس.لكن الكتاب يُسهم، من حيث لا يريد المؤلّف، في الإضافة الى المكتبة الضخمة التي أنتجها الغرب عن موضوع الحاج أمين و«لاساميّة» العرب. إنّ الكتاب أكثر فائدة للقارئ العربي منه للقارئ الغربي، لكن حتى في العربيّة (والكتاب صدر في طبعة عربيّة)، هناك الكثير من الأحكام القاطعة والأخلاقيّة المُبرمة التي تحتاج إلى نقاش. إنّ تكرار الإدانات لمواقف أصبحت في ذمّة التاريخ شبه القديم، لا يقدّم ولا يؤخّر، إلا من باب إحراج الشعب الفلسطيني بسبب خيارات غبيّة وغير أخلاقيّة للحاج أمين الحسيني.
وُفّق الكاتب في مراجعة المؤلّفات الإنكليزيّة عن الموضوع التي نقدها، لكن إحاطته بالمراجع العربيّة غير كاملة بصورة جليّة. لم يشر مثلاً إلى كتاب سامي الجندي «عرب ويهود»، مع أنّه من المؤلّفات المُبكّرة عن الموضوع الذي يهمّه (ويهمّنا)، كما أنّه أشار إلى إبراهيم علّوش (في كتاباته المُعادية لليهود كيهود) دون الإشارة إلى كتابات ناجي علّوش، والد إبراهيم، وفيها حساسيّة للمسألة اليهوديّة. وكانت مجلّة «دراسات عربيّة» و«شؤون فلسطينيّة»، وغيرهما من الدوريّات، تتضمّن نقاشات حيويّة عن المسألة اليهوديّة، لكن الكاتب لم يشر إليها البتّة. كانت ستغني النقاش وتبرز حساسيّة مبكّرة نحو المسألة اليهوديّة، فيما كانت المخيّمات الفلسطينيّة، ولا تزال، عرضة لقصف من عدوّ يعدّ نفسه ممثلاً ليهود العالم. لا شك أنّ القسم المُتعلّق بنقد الكتابات الغربيّة عن الموضوع في الكتاب أقوى بكثير من القسم المُتعلّق بالنتاج العربي. ثم كيف أنّ الكاتب يشير إلى كتابات المؤرّخة بيان نويهض الحوت (ص. 152)، مع أنّ كتابها «فلسطين: القضيّة. الشعب. الحضارة» تضمّن استشهادات ببروتوكولات حكماء صهيون (ووالدها كان مُروّجاً مُتحمّساً للبروتوكولات). كيف فات ذلك الكاتب؟
لكن الكتاب في المحصّلة، وهذا جوهر خلافي معه، يمثّل إدانة جديدة للحاج أمين الحسيني. والكاتب يذهب بعيداً جداً في التعبير عن حساسيّة ليبراليّة غربيّة، ترفض المقارنة بين معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناة اليهود، وإن كان الكاتب لا يمانع في مقارنة معاناة الشعب الفلسطيني لمصلحة معاناة غيره. يقول (كل الاستشهادات هنا هي من النسخة الإنكليزيّة للكتاب) مثلاً إنّ اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه لم يكن «واسعاً أو قاسياً بصورة استثنائيّة» (ص. 31). وأضاف إنّ المجازر ضد الشعب الفلسطيني لم تكن بحجم المجازر الفرنسيّة ضد الجزائريّين» (ص. 31). وفي إهانة فظيعة للشعب الفلسطيني، يقول الأشقر: «مقارنةً بالإدارات الاستعماريّة، فإنّ وضع الفلسطينيّين لم يكن الأسوأ إطلاقاً». (ص. 31). ماذا يريد الأشقر أن يقول هنا بالضبط؟ ولماذا يصرّ على مقارنة معاناة الشعب الفلسطيني بغيره، فيما هو يرفض بالقطع أي مقارنة بين معاناة الشعب اليهودي وأي معاناة أخرى، ويعدّ المقارنة مرفوضة أخلاقيّاً؟ هل كان سيقبل مقارنة بين جرائم هتلر وجرائم جنكيز خان، مثلاً، والأخير ترك وراءه عشرات الملايين من الضحايا؟ إنّ حجّة الأشقر هنا، وهي فاتتني، تقلّل من حجم معاناة الشعب الفلسطيني. تلك هي مشكلتي الأساسيّة مع الكتاب.
وفي قسم التأثيرات النازيّة في العالم العربي، وقد نجح الأشقر في وضعها في سياقها الطبيعي غير المُبالغ فيه في الكتابات الصهيونيّة، يبدو الكاتب ليّناً جدّاً في حكمه على نازيّة، أو التأثير النازي على حزب الكتائب (ص. 79)، مع أنّ المؤسّس، بيار الجميّل الجدّ، لم ينفِ تأثّره بالنازيّة أثناء رحلته إلى برلين، لحضور الألعاب الأولمبيّة (يقول الأشقر إنّ تأثّره بالفاشيّة كان أكبر)، لكن الأشقر يخفّف أيضاً من عمق العلاقة التاريخيّة بين حزب الكتائب وإسرائيل. نحن لا نعلم الكثير عن العلاقة التاريخيّة، إلا ما تسرّب في الكتابات والمراجع العبريّة، وهي تشير إلى دعم مالي إسرائيلي للحزب في انتخابات 1951. أي إنّ العلاقة كانت مُبكّرة (فليقلع جوزف أبو خليل عن حكاية المركب في عُرض البحر)، وهي لا شك مرتبطة بمشروع القانون الذي قدّمه حزب الكتائب في 1967، للخروج من إلتزام لبنان بمقاطعة إسرائيل المفروضة (آنذاك) من الجامعة العربيّة. الأشقر اختار أن يعير اهتماماً أكبر لتجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي (مع أنّه أغفل الحديث بإفاضة عن لاساميّة كتابات أنطون سعادة).
في المواضيع الإسلاميّة، لا يبدو الكاتب مُلمّاً بما فيه الكفاية. على العكس، فإنّه ينقل التصنيفات والمعايير الغربيّة. ينظر إلى تاريخ الإسلام من منظار التاريخ المسيحي (ص. 104). وفي حديثه عن الوهّابيّة، يظهر أنّ الكاتب لم يتعمّق في الموضوع، إذ إنّه يزاوج بين الوهابيّة والمذهب الحنبلي (ص. 105)، مع أنّ الوهابيّة في نظر مؤسّسها وفقهائها أتت فوق المذاهب الأربعة، ورفضاً لها، لأنّ دوغما الوهابيّة ترى في نفسها الإسلامَ الأوّل عينه، أي قبل نشوء المذاهب. والوهّابيّة نبذت العقائد لتطرح دعواها على أنّها الإسلام المحض، غير المُتضمّن الشوائب والبدع، وتلك النظرة تفسّر عدم التسامح والانغلاق والتعصّب الذي وسم تاريخ الحركة الرجعيّة. إنّ إدراج الوهابيّة ضمن المذهب الحنبلي (من الحكم السعودي) هو محاولة غير قديمة لجعل الحركة المُتطرّفة أكثر قبولاً من عامة السنّة. ولقد نشطت المحاولة بعد 11 أيلول 2001، بصورة خاصّة.
ويُدهش الأشقر عندما يعثر على كتابة معادية للشيعة من أوائل القرن العشرين، ويقول إنّها تشبه الكتابات المعادية للشيعة من «السنّة المتعصّبين» في العراق، الواقع تحت الاحتلال الأميركي (ص. 111)، لكن هناك تاريخ طويل من الكتابات الوهابيّة ضد الشيعة، سبقت الاحتلال الأميركي (الذي أجّج عن قصد، وبالتوافق مع الحكم السعودي حملة الفتنة في العالم العربي، لإراحة إسرائيل والتضييق على إيران. ويتحدّث الأشقر عن عزّ الدين القسّام، فيقول إنّه كان «سابقاً لجهاديّي اليوم، وإن الموت كشهيد للإسلام، مثّل بالنسبة إليه أعظم فعل تبريك» (ص. 132). هنا، تحاكي لغة الكاتب لغة خبراء الإرهاب في الغرب، إذ إنّه يتحدّث عن القسّام كأنّه واحد من إرهابيّي الزمن الحالي. هل أراد الكاتب أن يقول إنّ القسّام كان عضواً مبكّراً في القاعدة، وإنّ رفاته يجب أن تُنقل إلى غوانتانامو؟ هل يدري الأشقر أنّه صوّر القسّام (هذا الشاب السوري الذي انتقل إلى فلسطين ليسهم في تحريرها من الصهيونيّة) كأنّه نتاج ثقافة حب الموت، مع أنّ الكتابات الغربيّة نفسها عن العمليّات الإرهابيّة باتت قاطعة في أنّ الاحتلال الأجنبي هو الدافع الأكبر للعمليّات الانتحاريّة (راجع كتاب روبرت بيب، «الاستماتة للفوز بالنصر»). إنّ الاحتلال يولّد مقاومته، ولا تأتي المقاومة من عدم، أو من تقديس الموت (على طريقة خطاب 14 آذار المبتذل الذي يصوّب على سلاح حزب الله من أجل إراحة العدوّ الإسرائيلي). لم يكن القسّام عاشقاً للموت، بل عاشقاً للحياة على أرض فلسطين المُحرّرة.
وهناك عدد آخر من القضايا الأخرى في الكتاب، التي سيختلف معها أنصار القضيّة الفلسطينيّة. تسمع في الكتاب أحياناً صدى لتلك التشنيعة التي أطلقها أبا إيبان ضد الشعب الفلسطيني (عن تفويت الفرص، لا داعي إلى ذكرها). ينتقد، مثلاً، قادة الشعب الفلسطيني لرفضهم «ورقة 1939 البيضاء»، التي أصدرها الحكم البريطاني لإنهاء الثورة الفلسطينيّة الكبرى، 1936ـــــ 1939 (ص. 138)، لكن كيف يمكن لوم الفلسطينيّين على عدم الثقة بالنوايا البريطانيّة؟ كيف يمكن لوم الفلسطينيّين على رفضهم الورقة البيضاء؟ وقد كانت صياغة الوعد البريطاني في الورقة البيضاء أكثر إلتباساً وإبهاماً من صياغة وعد بلفور المشؤوم. صحيح أنّ بريطانيا وعدت بدولة عربيّة في غضون عشر سنين، لكنّها لم توضح كيفيّة التوفيق بين هذا الوعد، والتزامها بقيام دولة يهوديّة. كان هذا التناقض تكريساً للتناقض بين مراسلات الشريف حسين وماكماهون، وبين وعد بلفور. أدرك الشعب الفلسطيني أنّ الاستعمار البريطاني كان يبتاع الوقت من أجل أن يقضي على الثورة الفلسطينيّة، بعدما قتلت قوات الاحتلال البريطاني أكثر من 5000 فلسطيني، واستولت على الكثير من سلاحه. هناك ثبت تفصيلي في ملحق في كتاب وليد الخالدي الموسوعي، «من المأوى إلى الاستعمار»، عن الفروق بين التعامل البريطاني مع الثوار العرب وتعاطيهم مع المُستوطنين اليهود. إنّ رفض الشعب الفلسطيني اقتراح لجنة «بيل» والورقة البيضاء وقرار التقسيم كان قراراً صائباً، ومعبّراً عن تمسّك الشعب الفلسطيني بكلّ أرضه. لا حاجة إلى اعتذار الشعب الفلسطيني عن وطنيّته الخالصة. لا حاجة أبداً.
أما بالنسبة إلى الحاج أمين الحسيني، فمن يستطيع أن يختلف مع الأشقر في تصويره لتلك الطامة الكبرى؟ الحاج أمين ألحق أضراراً كبيرة بقضيّة الشعب الفلسطيني، وضغط مُبكرّاً لتنفيذ مآرب الدولة العبريّة (مثلما ضغط لفرض هدنة أثناء الثورة 1937، وذلك بناءً على أغراض الاستعمار البريطاني من خلال وكلائه في الدول العربيّة). أكثر من ذلك، فإنّ الرجل قدّم خدمات جلّى للصهيونيّة عبر العقود، من خلال خطابه الغبي وممارساته السيّئة، لكن، ما هي درجة سوء الرجل أو شرّه؟ هل كان أسوأ، مثلاً، حتى في علاقاته الشائنة بالنازيّة، من ديفيد بن غوريون، هذا الذي قاد حملة تطهير عرقي واحتلال وطن بحاله؟ والصهاينة لا يحتاجون إلى الحاج أمين لسوق تهمة النازيّة ضد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. هؤلاء ساقوا تهمة النازيّة ضد كل من طالب بتحرير فلسطين. ولا صدقيّة لمزاعمهم البتّة. هؤلاء حاولوا بجهد أن يورّطوا الحاج أمين في شهادة أيخمان، لكن الأخير خذلهم وبرّأه من تهمة المُشاركة في تنفيذ المحرقة. وحسناً فعل الأشقر، عندما فضح زيف الخطاب الصهيوني، الذي يرفض أي مقارنة بين النازيّة وجرائم إسرائيل من باب خصوصيّة شرّ المحرقة وقدسيّة ضحاياها، بينما نراه يسوق عرضاً ودوماً تهمة النازيّة ضد كلّ أعداء إسرائيل من العرب (كتب الرفيق جوزيف مسعد في هذا في فصل من كتابه «ديمومة المسألة الفلسطينيّة»). لم يتوقّف الصهاينة عن مقارنة ياسر عرفات بهتلر، وإيلي فيسيل، الذي حاز جائزة نوبل للسلام، مكافأةً له على صهيونيّته (لأنّ كتاباته لا ترقى إلى مصافّ الأدب أبداً)، كان سبّاقاً في تشبيه الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بالنازيّة. أما عن علاقات الحسيني مع النازيّة، فكان يجدر بالأشقر أن يبدي شكوكاً أكبر بشأن كلّ مزاعم الحاج أمين ورواياته وسرديّاته، وخصوصاً بالنسبة إلى إسهامه في المجهود الحربي النازي (ص. 144) لأنّه كتب ما كتب وهو مكسور ومنهزم ومذموم في الغربة، وكان من مصلحته أن يبالغ في دوره في الحرب العالميّة الثانيّة ضد البريطانيّين (وهذا كان مقصده في المزاعم، أنّه كان مقارعاً عنيداً للذين أهدوا فلسطين إلى الصهاينة). الحاج أمين نموذج للخيبة والهزيمة والفشل.
وهناك أيضاً ما يجب الاختلاف معه في الكتاب. وصف الأشقر، يهوشوفات هركبي، الذي عمل سنوات في الاستخبارات العسكريّة لجيش العدوّ بأنّه «واحد من الخبراء الإسرائيليّين المرموقين في شؤون العالم العربي» (ص. 171)، كيف احتلّ هركبي ذاك موقعاً مرموقاً في نظر الأشقر؟ ما هي إسهاماته النظريّة أو الأكاديميّة في شؤون العالم العربي؟ لقد أفنى سنوات في كتابات دعائيّة، وكرّس حياته «الأكاديميّة» لرصد المواقف العربيّة نحو إسرائيل، وعزو الكثير منها لدوافع لاساميّة. والأشقر نفسه نجح في تفنيد كتابات هركبي ذاك، مما يزيد في المفاجأة من تصنيفه. وكون هركبي قد أيّد موقف حزب العمل في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، لا يدعو إلى شكر الرجل أو إلى تقديره. إنّ موقف هركبي في كتابه «ساعة إسرائيل الحاسمة» لم ينبع من تعاطف مع الشعب الفلسطيني، بل من موقف صهيوني يسهر على مصالح احتلال فلسطين: دعا في الكتاب عينه إلى «صهيونيّة النوع» (يعني على طريقة فكر النوعيّة العنصري الطائفي عند بيار الجميّل وجبران تويني). لكن مواقف الأشقر من الصراع العربي الإسرائيلي هي في صلب الخلاف بيني وبينه. يُفهم من كلام الأشقر أنّه يريد من العرب الاعتراف بـ«حق إسرائيل في تقرير المصير الوطني» (ص. 218)، لكن، كيف يمكن العرب الاعتراف بحق تقرير المصير للعدوّ، إذا كان تحقيق هذا الحق يتكرّس فوق أرض فلسطين؟ كما قال مكسيم رودانسون ذات مرّة: يمكن المرء القبول بهذا الحق الوطني لليهود في أرض غير مسكونة، مثل القمر.
ويبالغ الأشقر في الحساسيّة نحو الآخر، حتى لو كان عدوّاً لنا (دولة وشعباً). يتحدّث عن «صدمة» اجتياح 1982وكيف أنّه ترك أثراً على «جيل من الإسرائيليّين» (ص. 177). أنا لا تعنيني آثار جرائم الحرب وأفعالها على مُرتكبيها، بقدر ما تعنيني آثارها على ضحاياها. هنا، يبدو الأشقر كأنّه يُقلّل مرّة أخرى من معاناة الشعبيْن اللبناني والفلسطيني (كان في بيروت أثناء الحصار مع أنّه يرفض مقارنة بيروت في الحصار بـ«غيتو وارسو» (ص. 229)).
وقد أخطأ الكاتب في الإشارة إلى إحسان عبد القدّوس كـ«يساري ناصري» (ص. 204) مع أنّ الرجل كان يمينيّاً، وقد ارتبط بالسادات وبالعداء لليسار (هذا، مع أنّ الكتاب يخلو من الأخطاء، وهذا يُسجّل للمؤلّف، وخصوصاً أنّ الكتب الصادرة عن الشرق الأوسط تزخر بالأخطاء والمغالطات).
لكن ماذا يريد الأشقر من العرب أن يفعلوا بالنسبة إلى المحرقة؟ هنا، يقترح الكاتب صيغة حل من حازم صاغيّة، الذي يتلقّى ثناءً في الكتاب، لكن اختيار صاغيّة مشكلة بحدّ ذاتها، لأنّ الرجل معروف بحساسيّة فائقة نحو اليهود ونحو معاداة الساميّة، لكنّه غير معروف أبداً بحساسيّته نحو معاناة الشعب الفلسطيني (يقول عنه مهدي عامل في كتاب «في الدولة الطائفيّة» ردّاً على مقالة له في «السفير» من الثمانينات: «ماذا أقول في هذا النصّ وفي صاحبه، الذي يستخفّ، إلى هذا الحدّ، بإلحاق الهزيمة بإسرائيل، بينما يرى النصر كلّه في «بناء المركز» الذي هو، بلا تورية، مركز السلطة الكتائبيّة، ويرى في بناء هذا المركز بالذات بناءً للبنان؟ الأفضل أن أمتنع عن وصف هذا النص وكاتبه» (ص. 39)). إنّ صيغة حلّ صاغيّة تتضمن الآتي: «بما أنّ «المؤرخين الجدد» في إسرائيل راجعوا التأريخ الإسرائيلي، فمن واجب العرب الحديث عن المحرقة اليهوديّة وتعميم المعرفة عنها». كيف فات الأشقر التناقض المنطقي في صيغة صاغيّة؟ أولاً، لم يقم المؤرخون الجدد في إسرائيل بإجراء مراجعة خدمة للعرب أو الضمائر: كل ما في الأمر أنّ وثائق «الأرشيف الصهيوني المركزي» فضحت أكاذيب دولة إسرائيل. اكتشفوا أنّهم ضحايا أكاذيب من دولتهم. لا يستحقون جوائز أبداً، كما أنّهم مهمشون في الأكاديميا الإسرائيليّة، وبعضهم حورب في الجامعات الإسرائيليّة. ولا يمكن الحديث عنهم على أنّهم فائقو الحساسيّة نحو الشعب الفلسطيني. بني موريس، مثلاً، هو من أبرز هؤلاء المؤرخّين، وهو يميني من دعاة المزيد من التطهير العرقي. ثالثاً، كيف توصّل حازم صاغيّة إلى معادلته تلك؟ كيف ساوى بين الذين كتبوا عن تاريخ إسرائيل وواجب العرب نحو المحرقة اليهوديّة؟ إنّ المؤرخين هؤلاء استفادوا من الاستيطان على أرض فلسطين وحاربوا (وبفخر في حالات) في حروب العدوّ ضدّنا. ما العلاقة بين هذا وواجب مزعوم من العرب لنشر المعرفة عن المحرقة، إلا إذا كان صاغيّة (ومعه الأشقر) يعتقد أنّ العرب شركاء للنازيّة في المحرقة. لا، ليس من واجب الضحايا الفلسطينيّين أن يعرفوا عن المحرقة وأن ينشروا عنها. من الجميل أن تعرف الشعوب كلّها عن الجرائم في التاريخ، لكن ليس هناك من واجب على الشعب الفلسطيني، إلا إذا كان من واجب شعب أسوج نشر المعرفة عن الجرائم ضد الغجر مثلاً. لا نطلب من القابع في الخيمة أن يضيف إلى مشاغله اليوميّة همّ واجب المطالعة عن المحرقة. إنّ صيغة صاغيّة تصلح لو أنّ الشعب الفلسطيني كان مشاركاً في الجيش الألماني في الحرب العالميّة الثانيّة. إنّ في صيغة هذا الحلّ إهانة للشعب الفلسطيني، وإن كانت المعرفة عن الجرائم التاريخيّة محمودة من كل الشعوب، لكنّنا نعيش في زمن يقول فيه أبرز مرشّح رئاسي أميركي جمهوري، نيوت غنغريتش، إنّ الشعب الفلسطيني «نتاج اختراع»، ولا تقوم قائمة في العالم العربي، ولا يوقّع الذين يصرخون لو صدرت إهانة من عربي ضد أيّ يهودي أيّ عرائض.
إنّ الخلاف بيني وبين الأشقر ليس منهجيّاً فقط، بل سياسي أيضاً. هو يرى أنّ هناك صهاينة خيّرين، ويختلف مع صيغة «الصهيونيّة هي عنصريّة» (ص. 274)، وأنا أتفق بالكامل مع تلك المعادلة. هو يدعو إلى اعتراف متبادل بين العرب والإسرائيليّين (ص. 275) وأنا أرفض وجود الكيان الصهيوني على أي شبر من أرض فلسطينيَ الغالية. هو متفائل بالمستقبل، لأنّه يرى أنّ ابراهام بورغ يمثّل تيّاراً في داخل الكيان، وأنا أرى أنّ الأخير استثناء في موقف عنصري وحربي لدولة ولمجتمع. هذا خلاف في الجوهر لا في التفاصيل. تحرير كل فلسطين ودحر الصهيونيّة من أساسها، ليس تفصيلاً البتّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)