كانت تظاهرات ثورتي تونس ومصر عرساً عربياً لم يتردد أي مواطن في تأييده لحظة واحدة؛ فقد كانت صورتا الثورتين متكاملتين ومنطقيتين، وشعبيتهما وسلميتهما ومواقفهما السياسية واضحة جلية، في تنافر مع وحشية النظام وعمالته، إضافة إلى الموقف الغربي والأميركي المحرج، الذي طمأن الجماهير العربية إلى سلامة الثورتين. كذلك كانت ثورة البحرين، رغم تمكن النظام من إضفاء بعد طائفي عليها.لكن الأمر كان أقل وضوحاً في اليمن وليبيا؛ فالأنظمة فيها مستهدفة من الغرب وإسرائيل. وكانت هناك تسائلات عدّة، وخصوصاً في الموضوع الليبي: فأي ثورة ترفع علم الملكية؟ وما هي قصة قادة الثوار وتاريخهم في «القاعدة»؟ وكيف تدعمهم أميركا لتحرير ليبيا، وتسعى إلى تحرير أفغانستان من إرهابهم؟ ومنذ متى يحمي الناتو ثورات الشعوب، دع عنك ثورات الشعوب العربية؟ هنا بدأ الشك في أنّ «الربيع العربي» مزيّف، أو على الأقل بعضه. إلا أنّ وضوح موقف جماهير البلدين ضد حكومتيهم لم يدع مجالاً للخيار لدى الشارع العربي، فأيد الثوار ودعم موقفهم، وإن كان بحماسة أقل.
ومن بين كل الثورات، كان الموقف من التظاهرات السورية دائماً الأكثر صعوبة. فمن ناحية أولى، ليست حكومة بشار الأسد ديموقراطية بالتأكيد. ومن ناحية ثانية، يعلم الشارع العربي أنّ تلك الحكومة هي الحكومة العربية الأخيرة الباقية على رفض المشروع الإسرائيلي للمنطقة، وداعمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية بجرأة، ولا تخشى من علاقات علنية متطورة مع إيران.
واحتراماً لما عُدّ خيار الشعب السوري، شارك الشعب العربي والصحافة اليسارية، نظراءهما من الشعوب الغربية وإعلامها تأييد الثورة واستنكار العنف تجاه المتظاهرين. لكن الشك بدأ يتسلل إلى النفوس شيئاً فشيئاً، مع تزايد حماسة الغرب للثورة السورية، واكتشاف مبالغات أشار إليها الصحافيّون الأجانب بعد جولاتهم في سوريا.
ومقابل صغر حجم تظاهرات الثوار، استطاعت الحكومة السورية تجييش تظاهرات أكبر بكثير، تماماً كما حدث بعيد الانتخابات في إيران! صحيح أنّ الحكومات الدكتاتورية لا تعدم وسيلة لحشد التظاهرات، لكنّها لا تفعل ذلك في الفترات الخطرة والاضطرابات، بل تلجأ إلى إلغاء التظاهرات حتى في مناسبات تؤيدها الحكومة خشية انقلاب الأمر عليها. إذاً، الحكومة تثق فعلاً بأنّ تلك الجموع تؤيدها بالفعل في هذا الموقف من «الثورة» على الأقل. وكتبت الصحافة اليسارية الغربية أنّ الثوار لم ينجحوا في كسب شعبهم.
لم تعط الثورة السورية انطباعاً مشابهاً لثورتي تونس ومصر، بل كانت أكثر وحشية وتسلحاً بنحو واضح. ويجيب المتظاهرون بأنّ ذلك كان رداً على قسوة القوات السورية، لكن الصورة لم تعد بذلك الوضوح. وكشفت تقارير غربية عن تشويهات إعلامية واضحة. وفشل الثوار في إقناع الناس بأنفسهم في الإعلام، ولجوئهم المستمر إلى الاستفزاز والقسوة، إلى درجة دعوة البعض منهم إلى قصف بلاده، وهو ما لم يكن وارداً في ثورتي مصر وتونس.
وحظي الثوار السوريون بمعاملة مميزة من أميركا، فترى السفير الأميركي في سوريا روبرت فورد، وقد كان مستشاراً للسفير الأميركي في العراق جون نيغروبونتي، والأخير متهم بتكوين خلايا الإرهاب في أميركا اللاتينية في ثمانينيات ريغان، يلتقي المعارضين ويزور حماه. وهكذا تزايد الانطباع بوجود مؤامرة تختلط بالثورة، فلزمت الجماهير العربية الصمت والمراقبة.
من ناحية أخرى، أثار موقف أردوغان وحماسته المبالغ فيها الشكوك. فهو كرجل دولة، تعدى كل حدود صفته بدعوى الموقف الإنساني. وكان حاداً في موقفه وهو المعروف بلجوئه إلى التهدئة السياسية مع جيرانه الآخرين، ولم يبد قلقاً من إزالة الحكومة العربية الوحيدة التي بقيت أمام إسرائيل التي يدّعي الوقوف بوجهها. ويعزو د. هاشم الموسوي وآخرون، الموقف التركي إلى رغبة تاريخية عثمانية في احتلال سوريا أو مناطق منها، إضافة إلى محاولة للتقرب من إسرائيل لأسباب عدّة، منها تحييدها في المواجهة مع اليونان وقبرص.
وتبنى أردوغان موضوع «الممرات الإنسانية» التي سارع المعارضون للتدخل، ومنهم العراق، إلى رفضها، وأكدت الأمم المتحدة عدم الحاجة إليها، وهو ما يكشف أن الهدف منها كان إمرار السلاح والمقاتلين، لا المساعدات الإنسانية، وبدت عبارته لترميم الموقف، بأنّ «تركيا لا تنوي التدخل في أي مسائل داخلية لدول أخرى»، مضحكة في الوقت الذي أكدت فيه حتى الصحف الغربية أن تركيا تدرب جيش الثوار وفرنسا ترسل ضباط استخبارات للتدريب على حرب المدن.
ويبدو أنّ النظام السوري صمد، وتأخر سقوطه أكثر من المتوقع لدى المخططين له، فازدادت الحدّة والتطرف، حتى إنّ تركيا ربما كانت تستعد اليوم لاجتياح سوريا، وخاصة بعد زيارات جو بايدن للمنطقة (وشملت العراق وتركيا)، وبالتالي سقطت كل صدقية أردوغان التي بناها لدى العرب، وتسرب الشك في أنّ مواقفه السابقة لم تكن إلا لكسب مواقف الجماهير العربية استعداداً للحظة الهجوم تلك، وهو ما يدفعنا إلى مراجعة مواقف أردوغان السابقة، فنرى أنهّا كانت إعلامية في مجملها، لم يتبلور عنها شيء ثابت، وأنّها لم تمنع الحكومة التركية في النهاية من استضافة الدرع الصاروخية للناتو، واستمرار العلاقة مع إسرائيل.
ومثلما تثير حماسة أردوغان البالغة الريبة، تفعل كذلك الحماسة غير المعتادة للغرب والدول العربية الأقرب لأميركا، والجامعة العربية أيضاً لدعم الثورة السورية. فالجامعة العربية، التي صارت فجأة في منتهى القوة والفاعلية، وهي المعروفة لدى الشارع العربي بسباتها الطويل في وجه إعتداءات إسرائيل، وضعت على سوريا شروطاً تسمح بتفسيرات «فضفاضة تصل إلى حد التعجيز»، كما قال الوزير السوري وليد المعلم.
ورغم أنّ سوريا «نفذت ما هو مطلوب منها بموجب خطة العمل العربية» وفق وزير الخارجية اللبناني، عدنان منصور، إلا أن ذلك لم يعن شيئاً لجبهة المعارضة. وعندما حاولت الحكومة تقديم عفو عام لحل المشكلة، قالت وزارة الخارجية الأميركية إنّها لا تنصح أحداً من المسلحين بتسليم نفسه إلى السلطات.
الجامعة العربية و«اللاعبون» الآخرون، على ما يبدو، يسيرون وفق أسلوب دبلوماسي أميركي معروف، كما أشار إليه البروفيسور نوام تشومسكي مراراً، يتمثل في إدامة الأزمة بتقديم عروض لا يستطيع الطرف المقابل أن يقبلها، فإن حدث وقبلها، يرفع سقف الشروط ثانية ليضمن استمرار الأزمة. وقد استعملتها الولايات المتحدة مع صدام حسين عند احتلاله الكويت حين كان خروجه السلمي يُعَدّ «سيناريو الكارثة» حسب تعبير كولن باول، وكذلك ما كشف عن الشروط التي وضعها الناتو لميلوسوفيتش في موضوع كوسوفو.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل صاحبه نشاط دولي كبير لتهريب الأسلحة والمقاتلين من دول جوار سوريا، من لبنان والأردن، التي اضطرت أحياناً إلى الاعتراف بها، وربما العراق، إضافة إلى ليبيا.
وعلى العكس من ثوار مصر وتونس الذين كانوا يعلنون رفضهم لإسرائيل أولوية رغم حراجة موقفهم، فإنّ ما قاله قادة «الثورة» السورية التي طالما انتقدت الحكومة السورية بأنّها «لم تفعل شيئاً من أجل تحرير الجولان»، يدعو إلى القلق. رئيس «مجلس إسطنبول» برهان غليون بيّن لصحيفة «وول ستريت جورنال» أن ما يقلق الثوار السوريين هو علاقة بلادهم مع حزب الله وإيران، ويعدون بعلاقة أقل معهما، ودعا إلى فرض منطقة حظر طيران على سوريا، وأنّه سيسعى إلى استعادة الجولان «بالتفاوض»! بينما يدعو المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد رياض الشقفة إلى تدخل عسكري في سوريا، وطالب عبد الحليم خدام في حديث لقناة الحرة الأميركية بتدخل عسكري لحلف الناتو.

موقف العراق

إعلامياً، تبنى العراق موقف المعارض لإزالة النظام بالقوة، ودعا إلى التفاهم مع الحكومة السورية، وعارض الرئيس جلال الطالباني التدخل الأجنبي العسكري فيها. وكذلك أكد رئيس الحكومة نوري المالكي موقفاً مشابهاً، مدعوماً من معظم السياسيين في البلد. وترى الحكومة العراقية أنّ الأمر شأن داخلي في سوريا لا يحق لجامعة الدول العربية التدخل فيه.
لكن من الناحية العملية، اكتفى العراق بالامتناع عن التصويت، وذلك لا يمنع «تدخل الجامعة» في «الشوؤن الداخلية» لسوريا. ومن ناحية أخرى، خرجت الجامعة عن بروتوكولها وصوّتت رغم اعتراض دولتين، بإصدار القرار، وهو ما يذكرنا بمرة سابقة كانت الجامعة فيها «أكثر فاعلية» مما يسمح به بروتوكولها، حين صوتت على حرب تحرير الكويت، فبدا للمراقب أنّ الجامعة لا تنشط إلا تنفيذاً لأجندة أميركية!
الامتناع عن التصويت منح المالكي صورة الرافض، ومنح الأميركيين ما يريدون عملياً. ويؤكد هذا الموقف إعلان المالكي بعد زيارة بايدن الأخيرة أنّه مستعد «لاستقبال المعارضة السورية... لتحقيق مطالب الشعب بعيداً عن العنف والحرب الأهلية»، وهو ما قد يُعَدّ دعماً سياسياً وإعلامياً للمعارضة.
وعلينا ألّا نستهين بالضغط الذي يتعرض له المالكي من الولايات المتحدة التي تلقي بكل ثقلها في المعركة، ولا تزال تعسكر في بلاده وتسيطر على الكثير من مرافقها بالسر والعلن.
وكان الإعلام العربي القريب من إسرائيل قد قام بعملية «الضغط الاستباقي» لمنع العراق من التفكير بمساعدة سوريا أو التعاون معها، من خلال بث شائعة مفادها أنّ الحكومة العراقية دعمت الحكومة السورية بالمال (بينما الحقيقة أنّها لا تدعم سوى حكومة الأردن المقربة من إسرائيل، بالنفط المخفض). وبالطريقة نفسها، أشيع أنّ مقاتلين من جيش المهدي أُرسلوا إلى سوريا للقتال إلى جانب الأسد، لكن أشار أنيس نقاش لاحقاً إلى أنّ القوات الأميركية أطلقت 400 عنصر من «القاعدة» للقتال إلى جانب المعارضة السورية، وهي الرواية الأقرب إلى التصديق باعتبار أنّ حماسة الولايات المتحدة لدعم المعارضة السورية وقدرتها على تفعيلها، تفوقان كثيراً ما يقابله لدى الصدريين. وتنتشر في العراق دعوات «جهادية» على الإنترنت، وفي تقديري أنّها من صنع الموساد.
فضلاً عن خطر الحرب الأهلية في سوريا، تواجه المنطقة احتمالات اشتعال حرب كبرى بسبب تلك القضية. ودفعت روسيا بوحدات بحرية إلى السواحل السورية، ربما لردع التفكير بضرب الغرب لسوريا، في الوقت الذي توجد فيه قوات بحرية أميركية أكبر في المنطقة، وكذلك تستعد السعودية لشراء صواريخ حماية. ورغم أنّ الصين وروسيا الرافضتين للعقوبات والتدخل الخارجي في سوريا، قد تمنعان قراراً من مجلس الأمن، إلا أنّ الولايات المتحدة لم تجد ذلك عائقاً بينها وبين إشعال الحرب في الماضي.

* كاتب عراقي