تستمرّ الأزمة السورية وتتعقّد، وتتفاعل في هذا السياق جملة من العناصر والعوامل الإقليمية والدولية، فضلاً عن العوامل الداخلية السورية. لبنان ليس بمنأى عن الحدث السوري. النأي بالنفس يصبح ذا مفعول حقيقي عندما تتوافر شروط ذاتية ليست متوافرة في برامج ومواقف وعلاقات القوى السياسية اللبنانية المتصارعة، أو المتنافسة، أو حتى المتحالفة. عدم توافر تلك الشروط ليس مسألة طارئة على المعادلات التي حكمت الوضع اللبناني، منذ حوالى قرنين، ولا تزال. جدلية علاقة الداخل بالخارج، وبالعكس، هي جدلية تزداد رسوخاً إلى درجة مَرَضيّة. هي كذلك لأنّ مجموعات لبنانية نافذة وكبيرة نسبياً، تضفي عليها أبعاداً استراتيجية، في ما يتصل بالهوية والانتماء والعلاقات: أي بالمصير، على نحو عام. سوريا هي من الدول الأكثر تأثيراً في الوضع اللبناني، ومن الدول الأكثر تفاعلاً معه.ما تواجهه البلاد اليوم من توتر يتصاعد مع تفاقم الوضع السوري، هو أمر طبيعي، بمعنى أنّه متوقّع وغير مفاجئ، وإن كان مقلقاً، أو هكذا ينبغي أن يكون، بالنسبة إلى كلّ المجموعات اللبنانية، لا إلى فئة واحدة منها فحسب. البعض يتصوّر أنّه يمكن أن يستثمر الأزمة في سوريا من أجل تعزيز دوره ونفوذه في لبنان. إنّه بذلك يمارس، كما أشرنا سابقاً، تقليداً لبنانياً لطالما كان سائداً في سياسات أهل الحكم في لبنان، وخصوصاً منهم الأكثر تمرّساً في الاستحواذ على مواقع القرار، السياسي والإداري في السلطة اللبنانية.
طبيعي أنّ مستوى التفاعل مع مسار الأزمة السورية يتفاوت بين فريق وآخر. لكنّ التفاعل قائم ومتصاعد. وهذا ما يكشفه اليوم سلوك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حيال تمويل المحكمة الدولية. لقد كان الرئيس ميقاتي يجاهر ويكرّر أنّه مع تمويل المحكمة، وأنّه سيحاول استصدار قرار عن مجلس الوزراء بدفع مستحقات لبنان من ميزانية المحكمة. كان الرئيس ميقاتي يضيف دائماً إنّ القرار في النهاية، هو لمجلس الوزراء.
الجديد اليوم، هو أنّ الرئيس ميقاتي انتقل من إعلان الموقف إلى الضغط من أجل تنفيذه، مهدّداً على نحو حاد، وحتى مستفز، بالاستقالة إذا جاء التصويت في مجلس الوزراء لغير مصلحة تمويل المحكمة. ليس هذا فقط، بل إنّ الرئيس ميقاتي أقفل أذنيه عن كلّ الاقتراحات الأخرى، ومنها مثلاً إحالة نقاش التمويل على مجلس النواب، بما قد يؤدّي إلى إيجاد مخرج لموضوع التمويل، ومعه مخرج مماثل لأزمة عرض الموضوع على مجلس الوزراء، ولأزمة آخرين في إقراره أو في عدم إقراره.
لا نضيف شيئاً إلى معلومات أحد، إذا أكدنا أنّ الرئيس ميقاتي، لم يكن ليختار هذا الموقف التصعيدي لولا استمرار تأزّم الوضع السوري، ولولا التصعيد الدولي والرسمي العربي (وخصوصاً الخليجي منه) ضدّ السلطة في سوريا. وللتذكير هنا، فإنّ سوريا، أيضاً، معنية بالمحكمة الدولية مباشرة. ذلك، رغم توجيه الاتهام ضدّ أربعة من أعضاء «حزب الله»، ورغم «صكّ براءة» النظام السوري الذي كان أصدره الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، في مرحلة المصالحة السعودية ـــــ السورية إثر قمة الكويت الاقتصادية مطلع 2008.
سوريا معنية لأنّ «حزب الله» حليفها. ولأنّ اتهام «حزب الله» سيقود حكماً، وفق طبيعة العلاقة بين الحليفين، وبسبب إدارة سوريا للوضع في لبنان، آنذاك، إلى توجيه الاتهام إلى السلطة السورية، أيضاً. بكلام آخر، كأنّ الرئيس ميقاتي إنّما يصعّد، في موقفه الجديد ذلك، ضدّ سوريا أساساً: في موضوع التحالف مع «حزب الله»، وفي موضوع الموقف من المحكمة الدولية، وفي الموقف من الصراع الداخلي في سوريا، وصولاً إلى الموقف من الصراع الدائر في المنطقة على نحو عام. ثمّ إنّ في التوقعات المعلنة ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ شكلاً من أشكال الاتهام، سيوجّه أيضاً إلى مسؤولين سوريين أمنيين على الأرجح، وهو ما كانت قد أشارت إليه، منذ فترة، وسائل إعلام غربية سبق أن تأكّد اطلاعها على مجريات الاتهام والتحقيق، وصولاً إلى الأحكام النهائية!
لم يخرج الرئيس ميقاتي في موقفه الجديد ذلك عن «الوسطية» التي يفتخر بها. إنّها «الوسطية» نفسها، لكن في ظروف متحرّكة ومتحوّلة. وهو لم يخرج أيضاً، كما ذكرنا آنفاً، عن تقاليد السياسة والساسة في لبنان، بالرقص على طبول الخارج، أو بدعوة الخارج إلى الرقص على وقع طبول هذا الفريق أو ذاك من اللبنانيين.
لكنّ السؤال الأهم، الآن: وماذا عن مخاطر هذا التصعيد في لبنان؟ إنّ الموضوع المطروح، أي المحكمة الدولية، هو مادة خلاف سياسي كبير في لبنان. وهو خلاف، كالعادة، يتغذى من العصبيات الطائفية والمذهبية ويغذيها، ذلك فضلاً عن أنّ القوى المؤثرة في المحكمة الدولية، كما بيّنت الأحداث، تعمل على الخروج بهذه المحكمة من وظيفتها القضائية، إلى دور سياسي برزت معالمه في أكثر من شأن ومن توجّه ومن إشارة.
التصعيد من جانب الرئيس ميقاتي قد يكون وسيلة لتحسين موقعه في الخريطة التمثيلية المذهبية التي يصارع من أجل اكتساب موقع الشريك الفاعل فيها إلى جانب تيار «المستقبل»، لكنّه في الظروف الراهنة، إذا لم يجر ضبطه أو التراجع عنه، مرشح لأن يكون سبب تدهور خطير في الوضع اللبناني. ذلك أنّ الدول العربية التي اعتادت التوسط في النزاعات اللبنانية تمرّ، الآن، في مرحلة قطيعة تتفاقم يوماً بعد يوم. «السين ـــــ سين» التي كان يلجأ إليها الساعون إلى التسويات معطلة بالكامل، كما لاحظ الرئيس بري، محاولاً، دون نجاح، الاستعاضة عنها بالحوار الداخلي. وهكذا يكون أنّه لو أصرّ الرئيس ميقاتي على موقفه الجديد، أي على التصرّف كممثل لجماعة مذهبية في لحظة توتر سياسي كبير، بدل أن يتصرّف كرجل دولة، فذلك يعني ليس «إنقاذ» لبنان، كما يعتقد، بل إغراق هذا البلد في مشاكل قد تتطوّر إلى ما لا تُحمد عقباه.
إنّ لحظة الصراع الراهنة، الإقليمية والدولية، في مناخ التحوّلات العربية الناجمة عن التململ الشعبي وعن التوظيف الخارجي، قد تجر على لبنان، وفق تجاربه المريرة وأزماته السابقة، أسوأ النتائج. وقد تكون هنا الوضعية «الوسطية» مسألة مطلوبة، لكن شرط أن لا تكون صادرة عن مصالح فئوية أو محاصرة في دائرة الارتهان إلى الخارج من جهة، والاستقطابات الطائفية والمذهبية، من جهة ثانية.
إنّ انكشاف لبنان بسبب تداخل صراعات الخارج مع الداخل، يجب أن يتحوّل إلى لحظة صحوة لاكتشاف الخلل التقليدي والمرضي في الوضع اللبناني. إنّ هذه المهمة، التي يجب أن يبدأها الرئيس ميقاتي بصفته رئيساً حالياً للحكومة، لا يجوز أن تقتصر عليه وحده. فالخلل شامل، وهو يكاد يسم برامج وسياسات وعلاقات الأكثرية الساحقة من القوى اللبنانية، وخصوصاً الكتل الأساسية منها.
إنّ إنقاذ لبنان، الذي تحدّث عنه الرئيس ميقاتي في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، لا يكون بزجّ الموقع الحكومي في تأجيج المشكلة، بل في استخدامه من أجل طرح مقاربة جديدة وانعطافية على اللبنانيين. ذلك هو الإنقاذ الحقيقي الذي من دونه سيكون لبنان محكوماً، ليس بأفضل إبداعات أبنائه وباستلهام مصالحه الوطنية العليا، بل بأكثر نزعات الفئوية والتعصّب التي عبثت بمصيره منذ عقود، حتى يومنا هذا.
* كاتب وسياسي لبناني