إلى أمّي سوريّا
وانطفأ النّهار يا سوريّا رغم كلِّ الأضواء التي انسابَتْ إلينا من بين حبّات المطر. أصداءُ الأخبار المزعجة ما زالت تطنُّ في أذني أينما رحلت. تحليلات الصّحف اليوميّة التي تقطرُ في معظمها حقداً وسمّاً. وأخطاءٌ ما زال يرتكبها الكثير من الكتّاب من حيث يدرون ولا يدرون!
نظرتُ إلى سمائكِ التي أعرفها جيّداً. لطالما كانت هذه السمّاء لي. لطالما أطلَقتُ فيها عصافيري وحمَلَتْني غيومها الدّافئة إلى حيث يسكن الله الذي أحبّ! فكيف يريدون فرض حظر جويّ عليها؟ وكيف يستبدلون أمطارك التي تحترف النّطقَ والغناءَ فتجعلني إنساناً، بقذائف تحترف الموتَ والدّمار فتجعل كلّ ما أحبُّ فيكِ أشلاءً؟
لا يهمّ يا أمّي. فصوتُ فيروز وهي تغنّي (طيري يا طيّارة) يُنسيني بعضاً من هذا الضّجيج. كلّ شيء فيها ينطقُ باسمكِ. سطحُ بيت الجيران حيث كنّا أطفالاً صغاراً. وتلك الطّائرةُ الورقيّة التي حلمنا بها ولم نستطع اقتناءها أبداً. أزّقتّكِ التي احتفَظَتْ بظلالنا الصّغيرة كتذكارٍ تبكي عليه الأمّ حين يكبرُ أبناؤها فجأة فيجحدون! مدرستي القديمة التي مرَّ عليها الزّمان فابيضّ شَعرُها وتبدّلت ملامحها لكنّني بقيت فيها أبداً تلميذاً يلفحُه بردُ الصّباح ونعاسه. ميناؤك الذي سحَرَني لسنينَ طويلة حتّى بات هيكلاً لروحي. ونوارسه التي هزأت بي مراراً وأنا أنتظرُ المراكبَ العابرةَ علّها تحملني إلى حيفا ويافا وبرتقال فلسطين الذي لم أتذوّقه قَطّ!
كلّ شيءٍ في روحي يهمسُ باسمك يا سوريّا.. فأنا لا أعرف بيتاً آخرَ سواكِ.. وشآمكِ التي تُصلبُ كلّ يومٍ تسكنُ في تفاصيل أيّامي. كنائسها في المدينةِ القديمة تشبهُكِ. ومآذنها التي تحرس أحلامنا تشبهكِ أيضاً. فكيف استطعت أن تفتحي أبوابَك منذ الأزَل لكلّ المقاومين والخائفين والعابرين والعاشقين والسّائلين عن بيتٍ يؤويهم من غدرات الزّمان؟
وماذا بعد يا حبيبتي. فدموعُك هذه أثقلَتْ روحيَ فعلاً. وأنا لا أملك من الدّنيا سوى هذا المنديل الصّغير. أرفعهُ إليكِ علّني أمسح به بعضاً من جروحكِ تلك. فخذيهِ يا سوريّا وخذيني..
فإن ابتعدتُ عنكِ وعُدتُ يوماً دونيَ الرّوحُ قد اشتاقَتْ إليكِ، فامنحيني بضعةً من أرضكِ الطّهر لكيّ ارتاحَ فيها، حيثُ ينبتُ برعمُ وردكِ الجوريّ، مثل طفلٍ، هائمٍ في رحمِ أمّهِ، ..خبّئيني!

ناتالي ميني