يقول قيادي سوري بارز في أحد أحزاب «الجبهة الوطنية التقدّمية»، وهو ممّن يضعون الثورية في تعارض «مبدئي» مع الديموقراطية، يقول معترفاً: إنّ قانون الأحزاب الجديد ينطوي على بنود أسوأ ممّا هو ممارس الآن! يفسّر ذلك جانباً أساسياً من أزمة الثقة بين السلطة السورية وحركة الاعتراض السياسية الشعبية التي تكاد تنهي شهرها السابع. يفسر ذلك أيضاً، ربما، تلك الفجوة الخطيرة، الواقعية والعملية، بين ما تعلنه السلطة السورية، وما تطالب به كلّ المعارضات السورية، إذ فيما يتمحور إعلام السلطة السورية حول الترويج «للعملية الإصلاحية التي يقوم بها الرئيس السوري بشار الأسد»، تواصل المعارضات السورية، رغم تبايناتها وخلافاتها، المطالبة بالإصلاح أيضاً!لا شكّ أنّ للإصلاح معنيين مختلفين، بالنسبة إلى الطرفين المذكورين. فالمعارضة، بكلّ تشكيلاتها، تنظر إلى إجراءات السلطة باعتبارها شكلية ولن تؤدي إلى حصول تغيير حقيقي في منظومة العلاقات القائمة حالياً في البلاد، وهي موضع شكوى من المعارضين. ويزيد في أزمة انعدام الثقة، الإمعان في المنع والقمع من جانب السلطة، وكذلك اتجاه أطراف من المعارضة إلى طلب الدعم الخارجي من واشنطن، ومن الدول الغربية الحليفة لها. ذلك فضلاً عن سعي، مبكر أيضاً، من جانب بعض المعارضين إلى إدخال السلاح عاملاً فاعلاً في الصراع، في امتداد دروس تجارب عنيفة «أليمة» في النصف الأوّل من ثمانينات القرن الماضي، أو بسبب جنوح مجموعات متطرّفة نحو العنف والإرهاب وسيلة لتحقيق أهداف سياسية وعقائدية متطرّفة.
ومن شهر إلى آخر، تحوّلت أزمة الثقة إلى حالة استعصاء، إذ انقطع الحوار وتعطّل الاتصال بالكامل، ومن هنا وهناك نسمع مواقف واستعدادات التصعيد ولو بأشكال مختلفة. فالسلطة من جهتها ترى أنّ الأمر قد استتبّ لها، أو على وشك ذلك، وبانتظار تصفية بعض البؤر والجيوب، ستعود الحياة إلى طبيعتها في كلّ أنحاء سوريا. أما في الطرف الآخر، فتتعالى صيحات وشعارات المطالبة بإسقاط النظام، وصولاً إلى إسقاط رئيس الجمهورية، الذي كان يُحيَّد شخصه أو موقعه سابقاً، كذلك يزداد جنوح أطراف وشخصيات وازنة لطلب «الحماية» الأجنبية، في امتداد الاستعصاء من جهة، ورفع وتيرة التدخل الخارجي، الأميركي خصوصاً، في الشؤون الداخلية السورية، من جهة ثانية.
إنّ ما يحذّر منه المسؤولون الروس من احتمال تدهور الوضع في سوريا باتجاه الحرب الأهلية، وهم أصدقاء ثابتون للنظام السوري، وفق ما تمليه شبكة الصراعات والمصالح الدولية الراهنة المتنافسة في المنطقة، يبدو الآن الأقرب إلى الدقة وإلى الواقعية. وذلك التحذير الذي تجد فيه روسيا وسيلة لمقاومة الضغوط الأميركية والغربية على موقفها الداعم للنظام السوري، لا يصبّ أبداً في ما يشيعه المسؤولون السوريون من احتمال إنهاء الأزمة في بلدهم في أيام قليلة أو في وقت قريب. إنّ تطوّرات الأيام الأخيرة، وخصوصاً إعلان السلطات السورية انتهاءً وشيكاً للأزمة، من جهة، وإعلان إنشاء «المجلس الوطني» كـ«إطار لوحدة المعارضة» من إسطنبول، من جهة ثانية، تفسح أمام عدد من التوقعات غير المتفائلة، في أحسن التسميات. ويستدعي ذلك التوجه إلى السلطة السورية، قبل سواها، لمطالبتها، بإعادة تقويم الموقف على نحو عام، وبإعادة تفحّص الخيارات التي اعتمدتها. ويجب هنا القول إنّ تلك الخيارات لم تكن صائبة، وكذلك لم تكن ناجعة، بدليل استمرار الأزمة، وبدليل تصاعد الاستنزاف الذي تعانيه سوريا، ممّا يعطّل دورها وقدرتها على الفعل والتأثير على نحو متصاعد. فالقيادة السورية، بسبب الأزمة والاستنزاف، لم تعد تمارس دورها «الممانع» كما تسمّيه، أي الدور المعترض على بعض الخطط الأميركية ـــــ الإسرائيلية، للسيطرة ولفرض التوجهات والتسويات حيال تلك المسألة أو تلك المواضيع التي يدور بشأنها صراع مستمر في المنطقة أو عليها أو على ثرواتها...
ويجدر بالسلطة السورية أن تلاحظ أنّ ما يزيد في إحراجها، وبالتالي في ضرورة إعادة تقويم الموقف من جانبها، هو موقف قوى وشخصيات المعارضة الوطنية الديموقراطية. المعارضة التي ترفض بحزم ووعي مسؤول التدخل الخارجي، وترفض عسكرة الاحتجاجات، هي، مع ذلك، غير مقتنعة بالبرنامج الإصلاحي للسلطة، ولا تجد فيه ما يلبي المطالب الشعبية التي لا تكفّ السلطة عن الاعتراف بمشروعيتها!
وقد يمثّل ذلك مدخلاً للتعامل مع حالة الاستعصاء من أجل إحداث اختراق ذي مغزى في جدارها الذي يزداد علوّاً وسُمكاً. فلماذا مثلاً، لا يلتفت القادة السوريون إلا إلى ما جرى ويجري في البحرين، ولا يلتفتون إلى بعض ما حصل في المغرب، أو في الأردن، أو، منذ أيام، في مصر؟ ففي تلك البلدان جرى سريعاً تحقيق مطالب محددة. ولم تكد تمضي ساعات على مؤتمر الأحزاب المصرية، وعلى تظاهرة ميدان التحرير الأخيرة، حتى أصدر المجلس العسكري الحاكم قراراً بتعديل قانون الانتخاب، الذي ينطوي على فجوة كبيرة تمكّن رموز ومراكز قوى «الحزب الوطني» المحلول والمخلوع، من عودة واسعة إلى السلطة، وبالتالي من أجل جعل التغيير شكلياً وجزئياً.
إنّ موقف المعارضة الوطنية الديموقراطية، التي تنتظر الحوار الفعلي، حتى الآن على طريقة غودو، هو ما يجب أن تتلقفه السلطة، وبكثير من الاحترام والتقدير، وعبر إحداث تحوّل فعلي في موقفها من الإصلاح، الذي يجب أن تتوافر له شروط موضوعية لكي تصبح سوريا «مثالاً» يُحتذى حقاً في الديموقراطية، كما يبشرنا قادة في السلطة السورية من وقت إلى آخر! إنّها الحلقة التي لا يجوز الاستمرار في إهمالها وفي تجاهلها وفي إضعافها أو محاولة إسقاطها. إنّ تلك المعارضة هي ضمير الشعب السوري إلى حدّ كبير، في تحديد الموقع الصحيح ما بين الحلّ الأمني والحلّ الخارجي. ويجب التحذير هنا أنّه قد يأتي يوم وتخبو فيه كلّ الأصوات العاقلة والمسؤولة، لمصلحة انزلاق أطراف الصراع إلى فتنة مفتوحة يصبح فيه الخارج هو الملاذ وهو المنقذ، وتصبح كلّ سوريا هي الضحية أو هي الخاسرة الكبرى.
لم يعد ممكناً أن يستمرّ الوضع في سوريا، كما كان عليه في السابق. وتحديداً لن يكون ذلك ممكناً من خلال استمرار «الخيار الأمني أوّلاً». وينبغي في ذلك الإطار الالتفات أيضاً إلى دور بعض الأحزاب التقدّمية، المشاركة في الجبهات الوطنية الرسمية في سوريا. فتلك القوى مطالبة بدور أكثر مبادرة وأكثر تمايزاً بالضرورة. وذلك الدور يبدأ بتطوير موقف تلك الأحزاب نفسها من مسألة الديموقراطية. هي تستطيع أن تمثل إضافة حقيقية في حوار حقيقي تدعو إلى إجرائه، أو حتى تضغط من أجل ذلك. إنّها فرصة لها ولسوريا برمّتها. ولا يجوز أن تضيع الفرصة، كما ضاعت فرص كثيرة قبلها. فالوضع الخطير الراهن والمفتوح على ما هو أسوأ، يستدعي تجاوز الذات وتجاوز موروثات وتقاليد وعلاقات المرحلة السابقة. إنّ ذلك الكلام موجّه بالدرجة الأولى، إلى الشيوعيين الممثلين في «الجبهة الوطنية» الذين يفتقرون إلى الموقع والدور المؤثّرين، وتتعمّق أزمتهم مع تعمّق أزمة النظام والبلد، ويستطيعون فعل شيء مفيد أكثر مما هو حاصل حالياً.
يبقى أنّ الديموقراطية «النموذجية»، تحتاج دائماً إلى الاختبار، لا إلى الأوصاف أو الوعود أو الادّعاءات. إنّها في البداية والنهاية: صندوقة اقتراع وسلامة عملية انتخابية.

* كاتب وسياسي لبناني