من التهديد الأميركي باستخدام حق النقض ضدّ الطلب الفلسطيني بالحصول على مقعد العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، إلى الموقف من الانتفاضات العربية وقمع تلك التحرّكات ومنعها، يقدّم الموقف الأميركي خصوصاً والغربي عموماً، مثالاً جديداً على اللامبدئية وازدواجية المعايير. ما يجري في العالم العربي، هو صحوة شعبية حقيقية، تتباين أحجامها وفعاليتها وإن توحّدت، تقريباً، أسبابها (وحتى أهدافها). وتلك الأسباب والأهداف تتلخّص في مواقف شعبية مستجدة، ترفض الاستبداد والظلم والفساد وكمّ الأفواه (مع ما يتصل بذلك من التبعية والتفريط بالحقوق وبالسيادة وبالثروات)، وتطالب بالحرية وبالديموقراطية وتداول السلطة ومحاسبة المسؤولين...لأسباب تتعلّق بمستوى تطوّر الأزمات والتناقضات والاستعدادات في هذا البلد العربي أو ذاك، لم تكن تلك التحرّكات شاملة لكلّ البلدان العربية، رغم أنّ الأوضاع فيها متشابهة. لا بل إنّ للظلم والفساد مواقع أكثر رسوخاً واستفزازاً في عدد من البلدان التي ظلّ فيها التحرّك مكبوتاً، بسبب آلة القمع والمنع، وبسبب القدرة على الرشوة والمناورة ورمي الكرة إلى ملاعب الآخرين، وذلك فضلاً عن تجنيد آلة إعلامية هائلة، لتصريف الأزمة إلى مواقع وساحات أخرى، وخصوصاً تلك التي دخلت في عمليات صراع مع الأنظمة التقليدية، الملكية، ومع ارتباطاتها بالمشاريع الخارجية التي تقودها واشنطن. ويجب التذكير بأنّ السعي نحو طلب الحرية هو تحرّك طبيعي تمارسه الشعوب المضطهدة في فترات يزداد فيها الظلم، وتضعف، في المقابل، القدرة على تحمّله ودفع أثمانه.
في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، جنحت سلطات التجربة الاشتراكية الجديدة، بقيادة النموذج السوفياتي، إلى القمع والإكراه والتفريط بحقوق وواجبات اجتماعية وسياسية واقتصادية. لقد أسّس ذلك لرفض شعبي، كان هو الأساس في إطاحة مجمل التجربة (قبل التدخل والتحريض الخارجيين) بعدما أغرق أصحابها إيجابياتها الكثيرة بسلبياتها الخطيرة. وفي فترة لاحقة، لفحت رياح الحرية القارة الأميركية الجنوبية، تصدّياً لسياسات الإلحاق والنهب الأميركيين، ورفضاً ولفظاً للحكام الدمى.
ولا يخرج المسار العربي الراهن عن ذلك السياق، إلا إذا سلّمنا بأمرين: الأوّل، وهمية مقولة «الشعب» و«الجماهير» بما هي مقولة فكرية وسياسية، والثاني، إسباغ قدرات خارقة على القوى الاستعمارية والمستغلة، فننسب إليها كلّ ما يحصل في العالم، بما في ذلك تحرّك القوى المتضرّرة من الهيمنة والنهب والقمع والعدوان وسواها ممّا تمارسه تلك القوى الاستعمارية المستغلة.
إنّ وضع الأمور في نصابها ليس هو فقط مسألة إدراك علمي وموضوعي للوقائع والأحداث والمجريات، وإنما هو أيضاً مسألة إدراك ثوري لها، تتأسس عليه خطط وواجبات وبرامج وسلوكيات وعلاقات. وهو الذي يتيح أيضاً تمييز الأساسي من الثانوي، والحقيقي من الوهمي، والطارئ من الثابت، وصاحب القضية، ممن يستغلها، على النحو الذي يحصل اليوم. وفيما تكشف الوقائع ويلاحظ معلّقون أميركيون كبار أنّ واشنطن ظلّت تؤيّد الرئيسين المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، حتى تأكّدها من استنفاد قدرتهما على الصمود والبقاء في السلطة، فإنّ المشهد العربي، كان ولا يزال يوحي بأنّ الولايات المتحدة شديدة الحماسة للتغيير، إلى درجة تبدو معها كأنّها هي صاحبته ومطلقته بالكامل!
مثل ذلك التقدير، يروّج له البعض من قبيل استعادة خبرات التجربة، ومن قبيل سوء الظن بكلّ ما تفعله الولايات المتحدة ذات السجل الحافل بالتدخل في شؤون كلّ العالم. يعزّز ذلك ما تمارسه واشنطن وشركاؤها من انحياز ومن غرضية: بدءاً من الدعم الأعمى للصهاينة في جرائمهم، وصولاً، إلى تحالف واشنطن الدائم والمستمر مع الديكتاتوريات الجمهورية عموماً، والملكية على وجه الخصوص (وتحديداً منها الأكثر جموداً وتشدّداً وتخلّفاًَ وتبعية وعداءً للحريات والديموقراطية). وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة فريقاً يحاول استخدام العداء الشعبي المعروف للموقف الأميركي والغربي لتمرير سياسات وبرامج باتت موضع شكوى كبيرة ومشروعة من قطاعات شعبية واسعة. ويجري الاستناد إلى ما هو قائم من تناقض محدود أو أساسي مع السياسات الاستعمارية في سبيل نفي كلّ مبرّر شعبي وداخلي للاحتجاج ونسبة ذلك بشكل كامل، إلى العوامل والقوى الخارجية. إنّ الأمر يحصل على طريقة من يوفّر للناس الماء، لكنّه يشترط عليهم، مقابل ذلك، الاستغناء عن الهواء أو عن الطعام!
قد يكون من المفيد التذكير بأنّ بعض الحركات السياسية قدّمت نفسها في الماضي، من خلال الشعارات والبرامج، على أنّها قوى تغييرية وثورية، تطرح مطالب «الجماهير» وتسعى الى قيادتها لتحقيق تلك المطالب. لكن مع استيلاء بعض تلك القوى على السلطة، ترسّخ النزوع السلطوي على حساب الدور «القيادي». ثم ما لبثت مسألة الحفاظ على السلطة أن تحوّلت مسألة مركزية تُبذل من أجلها كلّ الجهود وتُرتكب كلّ الانتهاكات أو الأخطاء. لقد حصل ذلك في تجارب البلدان الاشتراكية، ويحصل اليوم في عدد من التجارب والبلدان. والسؤال: هل ذلك أمر قدري؟! وهل يمكن تصويب البوصلة مجدّداً نحو ما تتطلّبه قضايانا العامة، إذا كنا فعلاً لا نزال متمسّكين بها ومستعدّين للتضحية من أجلها. أكثر من ذلك، إذا كانت الولايات المتحدة هي العدو أو الخصم، وهي فعلاً كذلك، ألا يمكن أن نحاول منع استغلالها للشعب و«الجماهير»، فنضرب بذلك عصفورين بحجر واحد؟ الأوّل كسب الناس إلى جانب ما نعلنه من قضايا وما نمارسه من «ممانعة». والثاني فضح الكذب والزيف الأميركيين، وكشف ازدواجية المعايير لدى واشنطن التي تدّعي دعم الحرية في مكان، وفيما تمارس إقامة التحالفات الاستراتيجية مع الأنظمة الأكثر ديكتاتورية في عشرات الأمكنة؟ ولعلّنا نضيف هدفاً ثالثاً ألا هو محاصرة أنظمة التبعية وفضحها وتحفيز ضحايا قمعها على التحرّك، بدل التواطؤ، أحياناً، مع تلك الأنظمة على قمع التحرّكات الشعبية فيها، كما حصل في المثال البحريني؟
نعم، نحن نعاني من ازدواجية المعايير الأميركية خصوصاً، والغربية عموماً. ولكن، ألا نمارس تلك الازدواجية نحن أحياناً، وفي مسائل وقضايا أساسية؟ ألا يدعم بعضنا الانتفاضة في مكان ويرفضها ويتهمها في مكان آخر؟ ألا يساهم بعضنا في الابتعاد عن المبدئية حيال قضايا تحتاج لكي تكون حاضرة في مسار التطوّر الحضاري والثوري للبشرية؟
ثمّة كثير من الأمور المبدئية الذي ارتكبت في مجرى التجارب التحرّرية والثورية: الجمود والسلفية والفئوية والفساد والتوريث... وليبدأ تفحّص ذلك من القوى الأكثر ثورية وجذرية أو الأكثر ادّعاءً بذلك: فلقد نقل آخرون من دعاة التغيير تقاليد «الثوريين» إلى أساليب عملهم بوصفها أساليب مشروعة وفعّالة.
لكنّ الخطر الأكبر يبقى في المخططات الاستعمارية وأساليبها المضلّلة: المقاومة العامة هنا هي «الجهاد الأصغر» كما يُقال. لكنّ «الجهاد الأكبر» يبقى في تخطّي السلبيات والأخطاء والارتكابات الذاتية التي يجري تصويرها بأنّها جزء من الثورة ومن أجل الثورة: لقد بتنا أمام خطر أن يجري تصوير كلّ موقف صحيح وثوري وتغييري، وكأنّه أمر لا يستمرّ إلا بالقوة وبالإكراه وبالقمع.
* كاتب وسياسي لبناني