كنا نتحدث من قبل عن مستقبل مصر في عالم متغير، أي كأنّه تغيّر واستقر ونحن نحتاج إلى التكيف معه. الآن نتحدث عن مصر في عالم يتغيّر باستمرار، أي إنّه في حال تغيُّر متواصل، ولم يستقر بعد على حال.مصر تغيّرت بالفعل. وهي تتغيّر باستمرار خلال الفترة الحالية، وفي طريقها إلى مزيد من التغيير بإرادة شعبها الحر. وشعوب العالم العربي تراقب مصر وتطورات الأحداث فيها، لكي ترى مستقبلها في مستقبل مصر، وقدرتها على بناء نظام سياسي اقتصادي واجتماعي جديد.
لقد وصل التغيير والتأثير إلى دولة العدو الصهيوني، وإلى شواطئ المتوسط وأوروبا وأميركا، طبعاً لعوامل داخلية في تلك البلاد، كما أنّ التغيير الاقتصادي والمالي الذي حدث في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا أخيراً، ينذر بنذر مهمة وخطيرة على حوض البحر المتوسط. هناك دول أفلست وأخرى على وشك الإفلاس، وثالثة تتقشف بقوة لإنقاذ اقتصادها.
لقد وصلت نذر التغيير إلى المجتمعات الأوروبية ويكفي للدلالة على ذلك ما حدث من جريمة شنيعة في النروج، حيث قتل حوالى70 شاباً وفتاة في معسكر للحزب الحاكم في أوسلو على يد شاب يميني متطرف، يدّعى أنه ينقذ أوروبا من خطر الإسلام والماركسية، وليس به جنون، بل يقال إنّ له مؤيدين ورفاقاً في أوروبا.
ولا تزال المملكة المتحدة تلملم آثار الشغب فيها، وأرجع رئيس الوزراء ذلك إلى تدني التربية المنزلية والمدرسية للأجيال الجديدة. ما السبب؟ لعل سيطرة الإعلام والثقافة العنصرية على عقول المراهقين أحد الأسباب.
يمكن ربط ذلك بالتحوّل الخطير في المزاج الأوروبي، الذي أدّى إلى تصاعد اليمين المتطرف وحصوله على أصوات أهلته للمشاركة في الحكم في بلاد عديدة، وارتباط ذلك بالإسلاموفوبيا مع دمغ الإسلام بالإرهاب والعنف كديانة وثقافة ومجتمعات كاملة، مما أدى إلى ترويج كراهية شديدة ضد المهاجرين والأقليات. حتى أميركا وصلها التغيير مع خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأميركية درجة واحدة، أدت إلى إرباك الأسواق المالية العالمية كلّها.
العنوان الرئيسي لهذا التغيير العالمي المزلزل هو «نهاية الحرب على الإرهاب». لقد اكتشف العالم، ولا يزال، الوهم الذي عاش فيه. وهْم أنّ هناك خطراً عالمياً يهدد الحضارة الإنسانية، وأنّ مصدر ذلك الخطر المسلمون وعقيدتهم العدوانية، وثقافتهم التي تحتقر الإنسان والمرأة، وتعتمد العنف والإرهاب.
بدأ ذلك الوهم مع زيادة تهديد حركة المقاومة ضد العدو الصهيوني انعقاد المؤتمر الدولي ضد الإرهاب في شرم الشيخ في 1996، الذي حضره الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وقادة العالم العربي جميعاً تقريباً.
ازدادت العمليات الإرهابية وانتشرت خلال تلك السنوات الصعبة والعسيرة في العالم العربي، في اليمن والسعودية ومصر والجزائر وتونس والمغرب، وصولاً إلى العالم الإسلامي في باكستان وإندونيسيا والهند، إلى أميركا في الحادث الإجرامي الأشهر، في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، الذي دشّن عالمية الحرب ضد الإرهاب، ليتحوّل العالم كلّه إلى ساحة مواجهة عنيفة. وجرى إثر ذلك: تخصيص ميزانيات هائلة للإنفاق على الحرب ضد الإرهاب في مجالات الاستخبارات والأسلحة ونقل القوات وإقامة المعسكرات الدائمة للقوات المسلحة؛ غزو أفغانستان والعراق، وشن حروب على جنوب لبنان وقطاع غزة، برضى دولي وسكوت عربي؛ إنشاء آلة إعلامية عالمية رهيبة خلقت صورة ذهنية مشوهة عن الإسلام نفسه كعقيدة وحضارة وثقافة وشيطنة المسلمين جميعاً كإرهابيين محتملين، وخلق صورة ذهنية عن غزو محتمل للإسلام في أوروبا وأميركا تحت عنوان «إنّهم يكرهوننا ويريدون تغيير أسلوب حياتنا، ويهددون حضارتنا»؛ دعم الاستبداد والدكتاتورية والفساد في بلادنا العربية والإسلامية بذريعة أنّ شعوبنا غير مؤهلة للحريات ولا للديموقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان، وأنّها ضد الإنسانية والحضارة والتقدم؛ دعم لا متناهٍ للعدو الصهيوني بوصفه واحة الديموقراطية الفريدة في منطقة قاحلة صحراوية، وأنّه رأس الحرية ضد الإرهاب، والتأييد المتواصل لسحقه الشعب الفلسطيني، لا حركات المقاومة فقط.
نحن أمام دور جديد لمصر الثورة، التي أعادت الاعتبار إلى القيم الإسلامية الإنسانية، وصححت الكثير من التشويه المتعمد ضد المسلمين والعرب والحركات الإسلامية. وهذا الدور يحتاج إلى معالجة أخرى. مصر تولد من جديد، وينتظرها دور عالمى إنساني.

* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر