بين القوانين المجحفة التي تحرمها حقوقها وتجعلها في كلّ مراحل حياتها تابعة مضطهدة، وحكم المجتمع والدين والعائلة والذكور عامة، تجد المرأة في لبنان نفسها أمام خيارين ـــــ كأي إنسان يُقمع وينكّل به ـــــ فإما أن تثور وتنقلب على المقبول والممكن والمسموح به، وإما أن تخضع. وليس أيّ من هذين الخيارين أفضل أو أسهل من الآخر. وتدخل الجمعيات الأهلية، بأجنداتها الأجنبية وأسلوبها المتعالي، بحجة أنّها «تدافع» عن حقوق المرأة. ندوات و«بروشورات» ومواد دعائية ومال يهدر منذ سنين، والمرأة في لبنان لا تزال تهان في بيت أهلها، وبيت زوجها، وفي العمل، والمدرسة، وأمام الدولة، وفي الشارع.في القرية الجنوبية التي تشبه مدينة صغيرة، دعاني أصدقاء لحضور ندوة عن حق المرأة في إعطاء جنسيتها لأولادها. كنّا أقل من عشرة أشخاص، في ندوة من المفترض أن تكون غير رسمية، كنقاش خفيف لكن جاد عن وضع المرأة في لبنان وقوانين الجنسية. بدأت المحاضرة بفيلم قصير عن أطفال رضّع من المتوّقع أن يجعلوا المتلقّي يشفق عليهم لأنّهم بلا جنسية لبنانية. استهلّ النقاش، أو بالأحرى المحاضرة، بعرض إحصاءات للنساء اللبنانيات المتزوجات أجانب، والتوزيع الديني والطائفي لهن، كما اختلاف جنسيات أزواجهنّ.
منذ البداية، كان مدخل المحاضرة مغالطة: عرّفت المحاضِرة الموضوع بأنّه للمطالبة بحق المرأة اللبنانية في إعطاء الجنسية لأولادها، وقالت ما معناه «ستسألون لمَ الاهتمام بهذه المشكلة وأنا لست متزوّجة بأجنبي ونحن المجتمعون هنا لبنانيون فما همّنا؟». بدأت الجلسة من أوّلها بـ«فركشة». فكيف تريد امرأة الدفاع عن حقّ، ويكون موقفها الأولي تبريرياً معتذراً باستحياء عن مشاركته في أمر «لا علاقة له به»، معترفةً بمسلّمة أنّ من لا تعاني المشكلة لا يمكن أو من الصعب عليها أن تجعل نفسها وبكامل إرادتها ووعيها، متورّطة فيها. هو أيضاً فهم ناقص للوعي الجماعي الإنساني لدى الشعوب، وهو أمر «يتسم» به اللبنانيون واللبنانيات. كأنّ المظلوم والمعذّبة في العالم هما الوحيد والوحيدة اللذان يتحملان عواقب الأنظمة والقوانين المجحفة، وكأنّ من ليست في موقع الاضطهاد، عليها أن تشكر ربّها و«تبوس إيدها وشّ وقفا»، وتعيش بعيداً عن هؤلاء المنبوذين والمنبوذات لأنّها، كما يحصل في نظام الطبقات العنصري الهندي (الكاست)، باقترابها منهم ومنهنّ تصبح مثلهم ومثلهنّ. ومن منّا تريد التخلّي عن امتيازاتها في بلد يتباهى فيه الأقوياء بقوّتهم، والأغنياء بمركزهم الاجتماعي، ويكون فيه الترقّي على السلم الاجتماعي هدفاً سامياً إلهياً مقدّساً، تهون من أجله كلّ التضحيات وتنحني الجباه؟!
بدأت المحاضرة إذاً، بسقف متدنّ يستعمل خطاب القوي/ اللبناني/ مانح الجنسية الأعلى، وبلعب على وتر المشاعر والأطفال الزهريّين والدموع، لتنتقل إلى ما هو أعظم: حجّة واهية تقبل التمييز والعنصرية والذكورية في النظام، وتتماهى مع منطقه. أوّلاً، لقد تقبّلت الجمعيات الأهلية وجهة نظر الطبقة المهيمنة بأنّ المشكلة الكبرى إذا ما أعطت المرأة الجنسية لأولادها هي توطين الفلسطينيين، فانبرت المحاضِرة تعدّ وتقارن أعداد النساء اللبنانيات المتزوجات أجانب، وجنسياتهم وطوائفهم. المشكلة هنا أنّ هذه «الحملة المطالبة بحق المرأة بإعطاء الجنسية»، تتوانى عن التحليل العلمي لخطاب الطبقة المهيمنة. نبدأ من حيث يقبل النظام أن يعطي الرجل الجنسية لأولاده وزوجته، مما يعني أنّه يعطي الجنسية لزوجته (أو زوجاته) وأولاده، حتّى لو كانوا من أصل فلسطينيّ... أما المرأة، فهي لا تعطيها. ممّا يعني أنّ حجّة التوطين هنا باطلة، وهي حالة فاضحة من حالات التمييز الجندري، لا العنصري. ثانياً، فإنّ الانطلاق من فكرة أنّ إعطاء المرأة الجنسية لأولادها يمكن أن يساعد على التوطين، والأهم محاولة البحث عن إثباتات بالأرقام تشير إلى أنّ ما يجري ليس حالة توطين، وأنّ المسيحيات يتزوّجن أكثر بأجانب، أو أنّ نسبة النساء اللواتي يتزوّجن فلسطينيين هي نسبة متدنّية، هي جميعها تمثّل موقفاً مقرفاً. موقف يقبل فكرة أنّ التوطين هو هدف هذه الزيجات ويحاول التبرير، كما يُظهر حقّ الزعامات الفارغة في أن تعامل الفلسطينيين بعنصرية، وأن تجد مهرباً من إعطاء النساء حقّهنّ بذريعة عنصرية فوقية. المقصود هنا هو الحاجة إلى رفض الخطاب المهيمن، ومواجهته بموقف واضح من حق المرأة في إعطاء الجنسية، دون أية اعتبارات لاهتمامات رموز الطوائف والأحزاب وفاشيتهم، وحق الأفراد في أن يكونوا متساوين أمام القانون بعيداً عن جنسياتهم. من المضحك أن أكتب هذه الأسطر في زمن الثورات العربية، والمرأة في لبنان تطالب بما هو حقّ أساسي لمخلوق أحادي الخلية.
بالإضافة إلى الموقف التبريري الواهن، باستحياء وعن قصد، يظهر الضعف أيضاً في فصل مشكلة إعطاء المرأة اللبنانية للجنسية عن باقي المشاكل الهيكلية في النظام اللبناني وسلوكيته. فالمطالبة بقانون الجنسية لا يمكن أن تُفصَل عن الموقف العام تجاه المرأة في القانون اللبناني، والأديان، ودور المؤسّسات الدينية في التأثير في أي قانون قد ينصف المرأة، كما لا يمكن فصله عن الخطاب العنصري الذي تعتمده الدولة تجاه الفلسطينيين. علينا أن نعترف بأنّ لكلّ شعب/ مجموعة، قضيته التي يعرف كيف يدافع عنها، وماذا يريد من خلالها، لذا حريّ بالحريصين على القضية الفلسطينية أن يتركوا للفلسطينيين والفلسطينيّات تقرير شكل مقاومتهم ومقاومتهنّ، ومواقفهم ومواقفهنّ من التوطين وغيره. غريب حقّاً دفاع هؤلاء الوصوليّين عن حقوق الفلسطينيّين. واللافت (اقرأي «مقرف») للنظر هو التبرير الطائفي للتوطين بأنّه ستتزايد أعداد المسلمين السنّة عن باقي الطوائف، والمسلمين عامة عن المسيحيّين. يا لطيف! مشكلة المشاكل في بلد الأحلام!
وقد شدّدت المحاضرة على أنّ المشكلة الأساسية هي تركيز النواب (الذين تقدّم إليهم مشاريع القوانين) على الأوجه السياسية للمعضلة، بينما يهتمّ الناشطون بالوضع الإنساني الذي تنتجه هذه القوانين. وهنا بيت القصيد، فالمشكلة سياسية كيفما نظرنا إليها، ولا نستطيع تحليلها «خارج الإطار السياسي»، بموضوعية وتجرّد. هي أزمة سياسية بامتياز. هي بسط النظامين الذكوري والعنصري لسلطتهما على أصغر التفاصيل في حياة المحرومين المتعلّقين بآخر درجات السلّم الاجتماعي في لبنان، ومحاولة محوهم. ومحاربتها لا تكون إلا بأدوات سياسية واضحة مختلفة تمام الاختلاف عن الطرق المحافظة التي تستعملها هذه الجمعيات ومشاريع قوانينها و«ناشطيها» الذين حوّروا خطاب الثورات والحاجة للتغيير إلى محاولات إصلاحية هرمة، تعترف بالنظام القائم ومشروعيته وتشحذ منه تغييراً أو حقّاً هزيلاً. المشكلة سياسية تدخل في عمق موقف الشعوب العربية من قضية فلسطين والفلسطينيّين، ومحاولات استعمال «القضية» لأهداف سلطوية.
تقع المرأة في لبنان بين سندان القمع والكراهية من النظام والعائلة والدين، ومطرقة «ناشطي وناشطات» المجتمع المدني. ويظهر الأمل من بعيد على نحو أخوية نسوية جامعة رافضة لقوانين الأمر الواقع، ثائرة موحّدة للنضالات والمقاومات، عاصفة بشكل ثورة تطيح المسموح به والممنوع ورافضة للمساومات والتنازلات والإصلاح. إلى أن تأتي هذه الثورة، حريّ بالجمعيات الأهلية وتوابعها أن تضع أدوات «تشبيكها وتمكينها وضغطها» هذه، في أماكن بعيدة عن النسوة، حرصاً على السلامة العامة.

* كاتبة لبنانية