أثناء عودتي بالطائرة، أطار النوم من عيني الجزءُ الأول من حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل للبيب السباعي، رئيس مجلس إدارة الأهرام، وانتظرت بقية الحوار حتى اكتملت حلقاته.قرأت لهيكل طويلاً وكثيراً، وقابلته مراراً، وحاورته طويلاً، وأستطيع أن أقول: إن الأستاذ يرى أن الأبطال هم الذين يصنعون التاريخ، وهذه مدرسة تاريخية محترمة، ولعلها السائدة. فعندما درست تاريخ الإمبراطورية الرومانية، كان المؤرخون يسردون تاريخ الأباطرة، وكذلك فعل المؤرخون المسلمون في تاريخ الخلفاء، حتى الدولة العلّية العثمانية، ومارسه هيكل في تأريخه للثورة المصرية عام 1952، فكانت هي تاريخ عبد الناصر، وحرب أكتوبر هي تاريخ السادات.
وسيظل الأستاذ ـــــ ولعلي أغضبه مجدداً ـــــ أسير الماضي الذي كان من صانعيه، والحاضر الذي يريد أن يشارك في صنعه، والمستقبل الذي يمثل له باستمرار الهاجس الأكبر، أسير التاريخ مؤرِّخاً، لا يطمئن إلى روايته الكثيرون، لأنه مشارك باستمرار، وليس مراقباً عن بُعد، أو مؤرخاً محايداً.
لا يرى هيكل الفارق الضخم بين ثورة 25 يناير التي أطلق شرارتها الشباب من مختلف التيارات، وأعدّوا لها طويلاً، ليس فقط على «الفايسبوك»، بل في لقاءاتنا في إطار «الجمعية الوطنية للتغيير» وخارجها، وشارك فيها الشعب بكل طوائفه وقواه الحيَّة الفاعلة، وحماها الجيش المصري الذي رفض إطلاق الرصاص على الشعب الذي سانده في تجاوز محنة الهزيمة النكراء التي سببها السياسيون والإعلاميون والنخب والقيادة العامة عام 1967.
تحدث الأستاذ هيكل طويلاً ـــــ في أجزاء ثلاثة ـــــ عن أمور كثيرة، ما يهمني منها هو الجزء الثاني من الحوار، الذي تطرق فيه إلى اقتراح بجدول أعمال وطني لمرحلة انتقالية، وقد أعاد فيه ما طرحه من قبل في حوار مع «المصري اليوم» قبل الثورة، وهو ما يعني ثبات الرؤية عند الأستاذ رغم الثورة التي فاجأته كما فاجأت الجميع.
الاقتراح يتضمن إجابات عن أسئلة، وجدول أعمال، واقتراحات تنفيذية. الأسئلة مطروحة من الجميع، وجدول الأعمال قد يختلف البعض في أولوياته، لكن الاقتراحات التنفيذية هي التي صدمت كثيرين، وأنا منهم، وهذا ما أتناوله هنا، تاركًا لغيري التعليق على أمور عديدة جاءت في الحوار الطويل عن «ابن لادن» و«مبارك» والضربة الجوية و... إلخ.
يتضمن طرح الأستاذ هيكل الآتي: فترة انتقالية، حَدّها الأقصى سنتان، يُقام خلالها نظام سياسي يتولى إدارة الدولة بسلطة الشعب المباشرة، بطريقة ديموقراطية. وهذا يعني بطريقة غير مباشرة: تأجيل التطبيق الديموقراطي لمدة أقصاها سنتان. لذلك، اعترض هيكل على الاستفتاء الذي نُظِّم، ويريد أن يُلغي نتائجه، ويطرح البديل. وفي سبيل ذلك يُقَدِّم لطرحه بأن:
1ـــــ الثورة بلا قيادة موحدة، ويطرح هو أن يتولى الجيش القيادة، ويمثله في ذلك السيد المشير، لتولّي الرئاسة بدون تكليف شعبي.
2ـــــ الثورة بدون فكرة مرشدة، يعتمد عليها كمرجعية ـــــ أي دون فكرة جامعة ـــــ وينسى أن الفكرة الجامعة هي إسقاط النظام الديكتاتوري الفاسد، وإقامة نظام سياسي ديموقراطي حر.
3 ـــــ الثورة لا تقدر أن تقيم وتصنع نظامها، ولا يرى أن الملايين ما زالت تخرج إلى الميادين لتصنع قراراتها وتحققها في أرض الواقع، أملاً تحول حلماً، صار واقعاً.
4 ـــــ الثورة عهدت إلى الجيش أن يصبح أميناً على الشرعية لاستكمال بقية المهمات ـــــ وهذا حق ـــــ لكن الثورة لم تطلب، ولن تطلب، من الجيش أن يتخلى عن دوره الرئيسي لحماية البلاد، وحراسة الحدود، واكتفت منه بما هو مطلوب، حماية الإرادة الشعبية التي يجب أن تظهر للعيان في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، كما ظهرت للوجود، وتحققت في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.
ورحبت الثورة الشعبية بإعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأنه ليس بديلاً من الإرادة الشعبية، ويريد «الأستاذ» أن يتنكر المجلس الأعلى للقوات المسلحة لهذا الوعد الذي قطعه على نفسه، وأن يتولى حكم البلاد بدلاً من إدارتها لحين تسليم السلطة للشعب في انتخابات حرَّة ونزيهة.
5 ـــــ وأهم ما يراه الأستاذ مبررًا لاقتراحه، هو انطلاق المشاكل المتراكمة من عقالها. ولم يقدم «الأستاذ» حلاً لهذه المشاكل، وتناسى أن استعادة الشعب لمؤسسات الدولة هو الطريق لتهدئة تلك المطالب، وأن تولي الشعب لمسؤوليته هو الضمان الحقيقي لكي يدرك أن العمل الجاد، والإنتاج الحقيقي، وتنمية الاقتصاد، هي الطريق لتوفير الموارد اللازمة لتلبية كل المطالب.
ولا يدرك «الأستاذ» أن العالم لن يتعامل مع دولة يديرها عسكر في هذه اللحظات التاريخية، وأنه سيتعامل مع دولة ديموقراطية، وحكومة وحدة وطنية ينتجها ائتلاف وطني واسع.
ولعلّ تقسيم الأدوار الذي حدث خلال الثورة، هو ما يجري الآن. فالشعب قام بثورته، وعليه أن يتولى السلطة بنفسه، والجيش حمى الثورة، ويبقى أن يتولى نقل السلطة إلى الشعب بأمان، وفي نزاهة وشفافية، ولا سبيل إلا الانتخابات.
القوى الثلاث التي صنعت الثورة تستطيع عبر الحوار الحر الصريح أن تنجز الانتقال الآمن بأقل مشاكل... وهذا الحوار موجود بالفعل، ومستمر، ويتفاعل.
الإشكال الذي يطرحه البعض في عدم الاستعداد للانتخابات يخص بعض القوى السياسية الجديدة التي ترى نفسها فقط كأنها هي وريثة الثورة، وتريد أن تحميها من قوى قائمة من قبل، بل تريد فرض وصايتها على الشعب، ما سيجعل الشعب يفقد ثقته فيها مهما طال الزمن.
الحل موجود... وهو أن تتآلف تلك القوى جميعاً، قديمها وحديثها، شبابها ورجالها وشيوخها، في قائمة انتخابية واحدة، أو في ثلاث قوائم تتنافس على كسب ثقة الناس. الدعوة قائمة منذ أكثر من شهرين، ومعها مبادرة تمثّل خلفية واضحة لم يختلف عليها أحد، وطوّرها الذين شاركوا في الحوار. طرحها المرشد أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في حضور أكثر القوى السياسية، وفي «حوار من أجل مصر» في حلقته الخامسة.
ليس هذا وقت توزيع المغانم، بل هو وقت تقاسم الأعباء. لا توجد غنائم، ولا كعكة يتصارع عليها السياسيون، بل هو جهد، وبذل، وتضحية، وعناء. لا نريد رئيساً يعيد إلينا سيرة الفراعنة، بل نريد رئيساً يختاره الشعب بحرية، ويحاسبه بشفافية، ويعزله ـــــ إن أراد ـــــ إذا انحرف وضل الطريق. نريد برلماناً قوياً فاعلاً، فيه كفاءات تستطيع صنع السياسات، ووضع الخطط، وتوزيع الميزانية، وممارسة الرقابة على الحكومة. نريد حكومة وحدة وطنية، تتألف من ائتلاف واسع، تضم كفاءات ترشحها القوى السياسية، تدير الملفات الشائكة، داخلياً وخارجياً. تخضع لرقابة البرلمان، تتحاور مع الداخل والخارج من أجل استتباب الأمن، ودفع عجلة الإنتاج، وتحقيق النمو الاقتصادي، وتضمن حقوق الإنسان، وتحافظ على استقلال القضاء، وتواجه مؤامرات الثورة المضادة بتفعيل القانون وسيادته. نريد مجتمعاً أهلياً ومدنياً نشيطاً وفاعلاً، في جمعياته الأهلية، ومنظماته الحقوقية المستقلة، ونقاباته العمالية والمهنية، واتحاداته الطلابية، ونوادي أعضاء تدريس جامعاته، ومراكز البحث العلمي، ويعمل بكامل طاقته الإنتاجية، في كل مؤسسات الصناعة والتجارة والخدمات.
يفترض «الأستاذ» أن هناك غياباً للدولة، وينسى أو يتناسى أن هناك أطرافاً محددة تدير الدولة التي لم تغب قط: هناك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يتولى أمرين:
الأول: السلطة التشريعية في غياب البرلمان.
الثاني: السلطة التنفيذية بديلاً للرئاسة. وهناك حكومة قائمة، تتولى تحت إشراف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إدارة الشؤون اليومية، وقد جاءت في معظمها من ميدان الثورة.
يريد «الأستاذ» تسمية المشير طنطاوي بلا حرج رئيساً للدولة. لا يجد الأستاذ حرجاً في تجاوز كل الأعراف الدستورية التي يريد الشعب العودة إليها في ثورته، فيعين بقرار منه ـــــ أو اقتراح حتى الآن ـــــ القائد العام للقوات المسلحة رئيساً مُعَيَّناً، لم تعينه الثورة، ويريد «الأستاذ» تعيينه. المشير طنطاوي رجل يحترم إرادة الشعب، ويدير المجلس الأعلى بديموقراطية، وزاهد في تولى الرئاسة، بينما يريد بعضنا صنع واقع جديد يرفضه الرجل نفسه. المهم أن «الأستاذ» هو الذي يسميه. هل هي عودة إلى الوراء، إلى التاريخ الذي كان يُسَمى فيه الرؤساء جميعاً بقرار في غرف مغلقة، ثم الانقلاب عليهم، ثم سجنهم من دون محاكمة والتنكيل بهم؟
يعود بنا هيكل إلى فكرة المجلس الرئاسي، فالمشير لن يحكم منفرداً، بل لا بد من تعيين عضوين معه، ويحيل الأستاذ إلى الفعل المجهول «رُئي»! من الذي يرى؟ ومن الذين يُعَيِّن؟ من هم الأوصياء الجدد على الثورة؟ من هم الذين يفرضون إرادتهم على الشعب؟ المجهول أو المعلوم: لا ندري! بل يتحدث «الأستاذ» عمّا هو أخطر: «مجلس أعلى للأمن الوطني». هل هذا بديل من مجلس الدفاع الوطني الذي ينص عليه الدستور؟ هل هو مجلس جديد؟ لا جواب.
أفكار هائمة تعوم في الهواء. ثم يعيدنا الأستاذ إلى «مجلس أمناء الدولة والدستور» يشارك في الإعداد لانتخابات جمعية تأسيسية، التي تطرح الدستور الجديد.
ما هذا كله؟ كيف نختار هذا المجلس؟ ومن الذي ينتخب الجمعية التي ستُعدّ الدستور الجديد؟ أسئلة بلا إجابات... بينما لدينا طريق واضح محدد، يُعيد الأمور كلها إلى الشعب الذي طالما تغنى هيكل بأنه القائد وأنه المعَلِّم. طريق رسمته التعديلات الدستورية التي يرفضها هيكل ويلتف عليها، ويعمل آخرون على تعطيلها بالطريقة نفسها. علينا أن نمضي قدماً في طريقنا، وألا نسمح لأحد ـــــ كائناً من كان ـــــ بالالتفاف على إرادة أربعة عشر مليوناً من المصريين، صوتوا لهذا الطريق الواضح، ويستعدون الآن للانتخابات البرلمانية، التي ستفرز برلماناً حرّاً، ينتخب الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور الجديد، الذي سيُطْرَح على الشعب في استفتاء عام.
أستاذ هيكل، عفواً. اقتراحاتك تجاوزها الزمن، وليست قابلة للتنفيذ. أنت مدعوّ معَنَا كمواطن لصناعة مستقبل جديد، لبلد مستقل حر ديموقراطي يصنعه الشعب كله.
أستاذ، انظر إلى المستقبل بتفاؤل، ولا تنظر إلى الماضي، فالماضي لن يعود، والشعب تعلّم من تجاربه.

* قيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر