قضينا ليلتنا أنا والكتاتني في استراحة المرشد العام بالروضة. كُنَّا مرهَقين متعبين، فنمنا نوماً عميقاً. استيقظت مع أذان الفجر، وأصررت على النزول للصلاة جماعة في المسجد المواجه للمنزل، رغم محاولات إثنائي بسبب الاضطراب الأمني الذي يسود البلد كلّه، ومنه المنطقة.كانت لجان الحماية الشعبية قد بدأت عملها فور انسحاب قوات الشرطة الرسمية من كل القطاعات، مما أربكَ مصر كلها. وصاحبَ ذلك خطران شديدان. الأول: ما حدث في السجون المصرية، وقد بدأت تتسرب إلى الصحافة بعض أسرار التحقيقات التي تتجه إلى أنّها كانت مؤامرة لإحداث الفوضى، وهو ما كان يُحَذر منه مبارك شخصياًَ، ويتبناه جهاز أمن الدولة، ووزير الداخلية حبيب العادلي. فكان مبارك يُرَوِّج عالمياً، أنّه في حال غيابه، أو غياب نظامه، أي التوريث، فإنّ البديل المطروح ديموقراطياً هو «الإخوان المسلمون»، المعروفون باتجاههم السياسي المعارض بقوة للسياسة الأميركية، وعدائهم الشديد للكيان الصهيوني. كذلك كان يروج داخلياً، أنّ البديل هو فوضى شديدة، ووظّف دعاةً دينيين، وكُتَّاباً صحافيين، ورجال مال وأعمال، بجوار إعلاميين ومنابر إعلامية لتحريم الفوضى دينياً، ولتجريمها سياسياً، والتحذير منها إعلامياً. كان هذا بجوار خطر الإخوان، أو «فزاعة» الإخوان داخلياً.
ما تسرب خطير جداً، فهناك اتهامات من شقيقة اللواء محمد البطران مدير سجن الفيوم، بأنّ الشرطة قتلته، لأنّه رفض فتح السجن. وهناك كلام كثير، وحبر يسيل على صفحات الجرائد، لم يمكن التحقق منه حتى الآن. وقد رويت ماذا حدث لنا في سجن وادي النطرون من قبل، فلا داعي لإعادته، وهو يضيف إلى الشكوك الخطيرة. الأمر الثاني تنسيق جهاز أمن الدولة مع لجان الحزب الوطني، لإطلاق ميليشيات البلطجية، الشبيحة، الذين استخدمهم الحزب من قبل بمعونة أمن الدولة والمباحث الجنائية أثناء الانتخابات البرلمانية نهاية 2010. وهو ما كان يُستخدم من قبل على استحياء، أو في أماكن دون أماكن، لكن كان المطلوب هذه المرة استئصال الإخوان المسلمين من البرلمان، تمهيداً لاستئصالهم من الحياة السياسية تماماً، رغبة في القضاء المبرم عليهم.
عندما نزلت إلى الصلاة، وجدت لجنة حماية شعبية تُرابِط أمام المنزل للحماية، وتطلب من المارة إثبات الشخصية، إذا كان غريباً عن المنطقة. كنت معروفاً إعلامياً، فلم أحتج إلى إثبات شخصيتي، لكن في كلّ مرّة كنت أخرج من المنطقة وأعود إليها، كنت أرى التدقيق الشديد في مداخل الروضة، التي هي عبارة عن جزيرة، أو شبه جزيرة، لها مداخل يمكن التحكم فيها تماماً (كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتنا للانتقال منها إلى مكان آخر، بعد أيام).
اكتمل عقد مكتب الإرشاد في مقره بالروضة، ولم يغب عنه إلا الأمين العام محمود حسين، الذي سافر إلى العمرة وزيارة أهل زوجته لمدة شهر قبل الثورة بأيام، وكان ذلك من تقدير الله لنا. فهو قام بدور كبير في الخارج عبر الاتصالات الواسعة، وتقدير الموقف عن بُعد، والاستفادة من العقول المصرية من الإخوان المسلمين وغيرهم لإدارة الحدث، وتوقع الأمور، ورسم السيناريوهات المحتملة.
وقعت أحداث عجيبة، أو مرتبة، اضطرتنا إلى الموافقة على قرار المرشد العام الانتقال إلى مقر الكتلة البرلمانية بشارع جسر السويس في شرق القاهرة. كان ذلك بعد موقعة الجمل، في اجتماع السبت التالي لها. أما ما حدث خلال أيام القلق والفزع في الأسبوع الذي سبقها فكان أهم أحداثه:
أولاً: أخذ الهاتف المحمول من فضيلة المرشد أمام المنزل الذي يضمّ المكتب، رغم الحراسة التي لم تكن مناسبة أو قوية، وبالطبع ليست مسلحة.
ثانياً: حالات التوقيف المستمرة لأعضاء المكتب القادمين من خارج الروضة، واستفزازهم المستمر من أعضاء الحزب الوطني المشاركين في اللجان الشعبية، واتهامهم أبنّهم وراء الثورة، وأنّهم يهدّدون أرزاق المصريين.
ثالثاً: تذمر سكان عمارة استراحة النواب، حيث كُنَّا نعقد اجتماعاتنا بعد الظهر، لأنّ مكتب الإرشاد كان في حالة انعقاد دائم ليلاً ونهاراً، لمتابعة أحداث الثورة لحظة بلحظة على كل التراب المصري، مع توفير وسائل اتصال متعددة، وبدائل كثيرة للتواصل. لذلك كان يبيت في استراحة النواب عدد من أعضاء المكتب من داخل القاهرة وخارجها. وقد أظهر بعض الشباب من السكان سلوكاً معيباً، يُنْذِر بما هو أخطر، مما دفعنا إلى التفكير الجدي بالانتقال إلى مكان آخر يسعنا جميعاً.
رابعاً: كان أخطر ما حدث هو اقتحام مكتب الإرشاد، قبل واقعة «الجمل» أو صباح يوم حدوثها أي الأربعاء 2/2/2011. كنت ومحمد علي بشر في شقة الطبقة الأولى، لمراجعة بعض الأمور، قبل انتقالنا إلى استراحة النُوَّاب قبل عصر ذلك اليوم. وفوجئنا باقتحام مجموعة بينها شاب مسلح بطبنجة (مسدس) ذكر أنّه ضابط سابق، غالباً من البوليس، يطلبون مِنَّا أن نجلس هادئين حتى يفتشوا الشقة. التزمنا الهدوء وعدم استفزازهم، وسألناهم عمّا يبحثون. قال أحدهم: لقد جاءتنا أخبار ومعلومات أنّكم تخبئون سلاحاً وأموالاً لتمويل الثورة. حاول العمال، وكانوا يشاركون مع اللجان الشعبية في حماية المنزل والمنطقة، أن يعترضوا، لكنّنا وافقنا لإدراكِنا خطورة الموقف، وعدم وجود سلطة حكومية، وحتى لو وُجِدَت سلطة، فهي التي قبضت علينا من أيام، وستكون ضدنا مع اطمئناننا التام إلى عدم وجود سلاح، أو أموال. عندما بدأوا بالتفتيش، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث مع أحدهم، وحضرت إحدى السيدات من الجوار، الذي يتشكل من موزاييك عجيب، بعضهم له جذور شعبية، وبعضهم من الأرستقراطيين القدامى، أو من محدثي النعمة عندما انتقلوا إلى المنطقة التي شهدت هدم بيوت أو فيلات، وتحويلها إلى أبراج سكنية شاهقة. كانت هذه السيدة تلتقيني كل صباح، واسمها شادية، وهي حالة عجيبة، تُشاهد الفضائيات، وتحدثني كلما تلقاني عن الأحوال العامة، وفي الوقت نفسه لا تتحرج من طلب المساعدة إذا اضطرت لذلك، وهي تمثل بالتالي حالة مصرية صميمة. حاولت شادية أن تمنعهم لكنّها فشلت. شهدت لنا بالخير، ولم تستطع أكثر من ذلك.
علمنا من محدثنا أنّ المجموعة الرئيسية التي حاولت اقتحام المكتب جاءت من الضفة الأخرى من مصر القديمة. يتكوّن المكتب من شقتين في برج كبير، وكانت السفلى عبارة عن استراحة قديمة للمرشد الأسبق السيد محمد حامد أبو النصر، الذي قَدِمَ من منفلوط/ أسيوط للإقامة بعد منتصف الثمانينيات، عندما اختاره الإخوان المسلمون مرشداً عاماً بحكم سنه وأقدميته في آخر مكتب للإرشاد قبل عام 1954، بعد وفاة المرشد الأول عمرالتلمساني. أمَّا الذين كُنَّا نُحَدثُهُم ويتولّون التفتيش، فهم من أبناء المنطقة، وبعضهم من سكان البرج أو البيوت المجاورة. كانوا مهذبين جداً، وقالوا إنّهم مَنَعوا الآخرين من أن يُحدثوا تلفاً بالمكان. لم يجدوا شيئاً، وصعدت مجموعة منهم إلى الشقة العليا، واستأذَنَّا نحن في الانصراف إلى استراحة النواب في المنطقة نفسها، فلم يعترضوا. استقبلهم الأخ العزيز محمود غزلان بالشقة العليا التي أُضيفت بعد انتخاب الأستاذ محمد مهدي عاكف مرشداً عاماً بسنتين تقريباً، في محاولة لتطوير المكان الذي بدأ في استقبال ساسة ومرشحين للرئاسة، يجدون صعوبة في الجلوس، نظراً لضيق المكان.
عَلِمْنَا من محمود أنّهم وجدوا نحو 15 ألف جنيه، وعندما عَلِمُوا أنّها مخصصة لمرتبات العاملين بالمكتب تركوها. كذلك علمنا أنّه جلس إلى بعضهم متحدثاً، فوجد أن ليس لدى الجميع منهم فكرة عن الإخوان المسلمين، وأنّ من لديه علم قليل فهو مُشَوَّش الفكر، وأنّ الحملات الإعلامية المستمرة نجحت في خلق صورة ذهنية مشوَّهة عن الجماعة. وطبعاً كان لمسلسل «الجماعة» الذي أُذيع في رمضان أثر في ذلك.
خامساً: عندما بدأنا الاجتماع في مقر «جسر السويس» يوم السبت التالي، فوجئت وأنا هناك باتصال من الأخ العزيز عبد الرحمن البر يخبرني أنّ إحدى اللجان الشعبية التي لا تريد السماح لهم بالمرور أوقفتهم مع ثلاثة من أعضاء المكتب، وأنّهم يريدون تسليمهم إلى الشرطة العسكرية. وكانت حجتهم أنّهم يركبون سيارات من الأقاليم، ولا سبب لحضورهم إلى المكان. ورغم تدخل بعض الإخوان من سكان المنطقة، لم يسمحوا لهم، وناول البر الهاتف المحمول إلى قائد تلك المجموعة، وكان محامياً من الحزب الوطني. بعد أخذ وردّ، وتدخل آخرين، سُمح لهم بالمرور.
غضب نائب المرشد رشاد البيومي من القرار، وطلب من المرشد بإلحاح أن يسمح له بالوجود صباحاً في مقر المنيل بالروضة، وكان هذا له ما يبرره، ليكون قريباً من موقع الحدث الأبرز، أي ميدان التحرير، وكذلك لإجراء المقابلات التلفزيونية والصحافية مع المراسلين الذين تدفقوا بالعشرات على المقر المعروف لهم. لذلك بقي معه المنسق الإعلامي الأخ وليد شلبي، وبعض السكرتارية مع العمال، وأتذكر أنّه عقد قرابة المائة حوار وحديث، في عشرة أيام.
كان غضب المرشد السابق محمد مهدي عاكف أَشَدّ، وأصر على الحضور إلينا ليشهد اجتماعنا، ويعلمنا بغضبه العارم، وطلبه مِنَّا أن نعود فوراً إلى المنيل. امتص المرشد محمد بديع غضب الأستاذ عاكف، وطالبه باسم الجندية التي أعلن عنها، والتزم بها من قبل عندما طلب الذهاب إلى ميدان التحرير، فرفض المرشد الإذن له بذلك والتزم تماماً. واضح أنّ المرشد كانت له رؤية مبنية على تقارير ومعلومات، أعلمنا بعضها، ولم يعلن البقية.
كُنَّا عقب الانتخابات في نهاية 2010، وقبلها أثناء لقاءاتنا الخاصة البعيدة عن المقر الرسمي، نتداول بإلحاح ضرورة وجود جهاز للمعلومات وتحليلها. تواصينا بعدّة توصيات، لحين إقامة ذلك الجهاز، بأن نشجع الإخوان والأخوات على النزول إلى النوادي والمنتديات التي ترتادها النخب العليا للبلاد، واللقاء معهم، والإنصات جيداً إلى ما يتداولونه من أحاديث، واستفزازهم لمعرفة المزيد، مع ضرورة نقل المهم والمفيد منها إلى قيادة الإخوان. مع بداية الثورة، كان الإخوان جميعاً في الشوارع والميادين، مما أتاح لهم جمع أكبر قدر من المعلومات. كانت كل المعلومات تتجمع لدى المرشد الذي اتخذ قرار الانتقال بعد مشاورة عدد من أعضاء المكتب.
أما أحداث ميدان التحرير خلال الأيام التي سبقت موقعة الجمل، فهذا حديث آخر يستحق التوقف أمامه عن الإذاعة والاعتصام والروح الجديدة التى دبت في مصر العظيمة وأخلاق الميدان.

* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر