تجديد البيعة لحزب العدالة والتنمية في تركيا، غياب الاختراقات العسكرية الحاسمة في ساحة الصراع السوري، والنتيجة الباهتة لمؤتمر فيينا، كلها إشارات لا يجب أن تخطئها عين مراقب على أن الأزمة السورية على أعتاب جولة جديدة من المراوحة التي تأخذ بالعادة أشكال التصعيد الموسمي بين الفينة والأخرى من دون أن ترتدي طابعاً جذرياً لناحية خلخلة الستاتيكو القائم.
يضاف إلى ما تقدم اللازمة الإقليمية القائلة بأن الحل في سوريا لا يمكن إلا أن يكون سياسياً، وهي طريقة غير تقليدية للاعتراف بعقم الحلول العسكرية. ويبدو أن هذه الخلاصة المشتركة لن تؤدي بيسر نحو الحلول السياسية لأن هناك دائماً من لا يستطيع مقاومة شهوة الاستثمار في المراوحة غالباً لتحقيق اختراقات وتحسين مقدراته التفاوضية، وأحياناً لانعدام مصلحته الواضحة في الحل. بيد أن هذه الاختراقات ستكون عبثية تماماً ما لم يتم وضعها في سياق رؤية رصينة لما هو ممكن وما هو خارج قيد الإمكان.
نتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا والتي أفرزت تفوقاً واضحاً لحزب العدالة والتنمية تشير إلى أن التكهنات التي قفزت إلى التبشير بنهاية سيطرة الأخير على المشهد السياسي التركي كانت خاطئة ببساطة. وبالتالي، فإن تراجعه في انتخابات حزيران لم يعدُ كونه مجرد وعكة سرعان ما تعافى منها. أيضاً، ما حدث ويحدث في مصر هو استعادة غبية لتجربة مريرة لا يكف العقل السلطوي العربي عن ارتكابها. فالنظام المصري لم يكتف بإزاحة الإخوان المسلمين عن السلطة، بل عمد إلى تحويلهم إلى طرائد مشروعة، ما ساعد في خلق بيئة مثالية للأصوات الإخوانية المتطرفة، بالإضافة إلى تمكن المنظمات المرتبطة بالقاعدة من جذب العديد من محازبيهم، هذا على افتراض حسن النية. إذاً، ما كان يمكن أن يكون فرصة ذهبية لصد الفكر القاعدي في مصر عبر تشكيلات الإخوان المسلمين التي ينظر إليها الكثيرون كبديل يمكن التعايش معه تحول إلى جحيم من آلاف الشباب الذين لجأوا إلى القاعدة والتنظيمات المرتبطة بها باعتبارها ملاذاً آمناً لأفكارهم وشكلاً من أشكال التعبيرات السياسية والاجتماعية التي منعت عنهم.
الإسلام السياسي،
على أنواعه، ارتكب العديد من الأخطاء القاتلة

سابقاً، حدث هذا في الجزائر أيضاً.
من نافل القول إنّ الإسلام السياسي، على أنواعه في الاقليم، ارتكب العديد من الأخطاء القاتلة ومن الصعب بمكان تصدير صك براءة له بخصوص تهمتي الانتهازية والتورية. أبرز هذه الأخطاء تمثل في نجاحه «المريب» في طمأنة الغرب، بالتزامن مع فشله المرير في الحفاظ على حد أدنى من الثقة مع سائر التيارات القومية والعلمانية العربية والإسلام الشيعي على السواء. ولم يكن غريباً أن يغضّ الأخير النظر حين فتك النظام المصري بنسختهم المصرية. الآن، وبعيداً عن التفكير الإنشائي، يبدو ولاء الكتلة السنية في المنطقة منقسماً على نفسه بين شخصانية النظام السعودي الذي ذهب بعيداً في معركته السورية وكرسي الخلافة الموعود في أنقرة، وكلاهما لم يتورع عن توسل الإرهاب للوصول إلى غاياته. أما المراهنة على مزاج سني قومي يعتد به، عابر للتموضعات المذهبية، فهو نوع من التفكير الرغبي الذي آن للجميع الإقلاع عنه. الخيارات واضحة ومحدودة وأيضاً مؤلمة، ولكنها أكثر من أي وقت مضى مطلوبة. ولا يوجد شوط هروب في هذا العالم يقي من ألم تجرّع الخيار بين المملكة والسلطنة.
في مطلق الأحوال، الجلوس مع الآخر الإقليمي ليس ترفاً أو تفضلاً، إنه قدر. في المقابل، الآخر عموماً ليس دوغما مغلقة على نفسها، ولا شيء يمنع نظرياً محاولة تشذيب وصقل الشروط الاستراتيجية لهذا الآخر. في سوريا على سبيل المثال، ما هي تداعيات القول بعدم وجود معارضة سياسية تمثيلية؟ أخطر، ما معنى القول (وهو قول صحيح إلى درجة كبيرة) أيضاً بغياب معارضة مسلحة معتدلة؟ أما وقد سلّم النظام السوري بالتسوية، فلا مانع من أن يعمد إلى أن يستعير للمعارضة حضوراً ووزناً مع علمه بأنها لا تملك الكثير منهما، فسيكون ذكياً أن يشارك هو نفسه في تشكيل وصياغة الآخر السوري الذي سيجلس مقابله على الطاولة. هذه الجهة التي تقبل نظرياً بأن تجلس على الطاولة السورية ليست تمثيلية على الأغلب، لكنها بوابة عبور أساسية نحو تبيئة الساحة الإقليمية والدولية لتدشين جهد جدي لمحاربة الإرهاب.
وأبعد من المحطة السورية، من الآمن القول بأنه ليس للإسلام الشيعي الناجز أن يمانع تشكل إسلام سني مقابل، مع التسليم بتعدد نسخ هذا الأخير. يبقى أن تحضير البيئة السليمة لنمو وازدهار نسخة سنية قابلة للهضم في المنطقة العربية هو أيضاً في صلب مسؤوليات الإسلام الشيعي. هذا مع ترك القول بحتمية انجراف الإسلام السني نحو التطرف لما يتضمنه هذا القول من افتراض لعطب جوهري في هذا الإسلام لا يمكن إصلاحه، وهو ما ينحو بقائله نحو نوع من الاستشراق المحلي.
الويل لنا إن لم يكن هناك من إسلام سني يستطيع أن يتعايش مع إسلام شيعي، هذا سيبشر بقلاقل لا أفق لها. مع افتراض استحالة أن تتعايش طائفتان معاً في زمنين حضاريّين مختلفين، يبدو أن العمر السياسي لمنطقتنا يسمح فقط للقوى الإسلامية باحتكار تطلعات شعوبها السياسية. أما «التيارات العلمانية، فلها الله!».
* كاتب لبناني