في كلمته أمام الملتقى العلمائي العالمي لدعم فلسطين مَرارة لا يعرفها إلّا من نشأ على مقولة «لو ألقى كل منكم بدلو من الماء على إسرائيل لجرفتها السيول». ففي اعتبار السّيد والمدرسة المؤسسة التي أنجبت السيّد أنّ كل ما كان يستلزمه الأمر هو صحوة الأمة ووحدتها ليكتمل المشروع، ومنه وفي أساسه تحرير القدس. على بعد عقود من تلك المقولة الخمينية يجد السيد نفسه محاطاً بواقع ليس له إلّا أن يقول أمامه «أنّه ليس في صدد جلد الذات» أمام هذا السوء العظيم الذي تعيشه الأمة.
فالأمة قد صحت فعلاً واستفاقت بكل أطيافها لكنّها لم تتوّحد بل تشتت وتذابحت وكانت القدس في آخر حساباتها. هناك خلل في المعادلة - الافتراض، حلقة ناقصة لم تؤخذ تماماً بعين الاعتبار وهي أنّ استفاقة الأمة على إسلامها يعني بالضرورة استفاقة المذاهب والمدارس والفرق، وهي طرق فكرية متناقضة لا يمكن جمعها في معسكر واحد ولا حتى منعها من التصادم. لقد أثبتت التجربة التاريخية أنّ المذاهب الإسلامية لا تتوّحد بالضرورة في مواجهة عدو مشترك واحد إنّما قد يحدث العكس، وقد حدث مراراً وتكراراً على امتداد التاريخ الإسلامي. فمن اتهام «الروافض» لصلاح الدين الأيوبي «قاهر الصليبيين» بممارسة أبشع أنواع التنكيل بحق الشيعة في مصر إلى اتهام «النواصب» للروافض بالتآمر مع المغول لدكّ صروح خلافة بغداد. إنّها متلازمة صحوة المذاهب، وهو ما يحصل اليوم، وتكرار التجربة ذاتها بالمعادلات ذاتها مع توّقع نتائج مختلفة هو أمر مخالف لقوانين آينشتاين بالذات. ربّما تجاهل الإيرانيون مقولة سيّد الفيزياء الحديثة وأمعنوا في إيقاظ صحوة يرى كثيرون أنّ عليهم الاعتذار لضحاياها، علماً أنّ أول ضحاياها هو جمهورهم بالذات. لقذ قضى الشيخ حسن شحادة سحلاً في شوارع مصر وحواريها بتهمة ممارسة شعائر الروافض الشركية، وفي عرس وصول الإخوان إلى السلطة وفي الوقت عينه الذي كان جمهور الثورة الإسلامية الإيرانية الحالم يُصفّق «لإخوة الدين والمعتقد»، في حين لم تشفع لحزب الله مهنة «عتالة السلاح» إلى غزة عبر سيناء المصرية ليجد نفسه في مواجهة «دواعش القطاع» على أكثر من جبهة. وما زال السيّد يراهن، فالحلم الذي نشأ عليه الصادق هو آخر ما يموت. ففي مفهوم السيّد، الذي لم يقله ولن يقوله، أنّ الفشل أو النجاح ليسا هما العاملان اللذان يحدّدان المسار، بل القضية هي الأساس. وفلسطين الحاضرة في البنيان العقائدي لوريث الخمينية لن يقتلها في ذاته تخلّي الأمة عنها وانشغالها بالانتحار الجماعي فهي «قضية مقدّسة»، وما دامت مقدّسة فلماذا لا تحظى بالإجماع؟ لكنّ سؤالاً مشروعاً يتبادر على الفور على الأذهان: أليس المقدّس جزءاً من المشكلة؟ وحتى لو كانت المذبحة القائمة على امتداد الأمة هي مذبحة «سياسية»، ألا يستحق أخذها لوناً مذهبياً فاقعاً وشديد الوضوح إعادة نظر بأصل الافتراض. فالصحوة قد تعني أشياء كثيرة، وقد يكون تخلّي الأمة عن القدس هو إحدى معانيها ونتاجها. إنّها المعضلة القاسية التي لن يواجهها السيّد وهو الجريء الذي لا يتخلّف عن المواجهة، فهي مثار مراجعة خطيرة تستلزم إعادة صياغة الشعار ذاته «الصحوة والوحدة».
لطالما شكّل حزب الله ومن خلفه إيران رأس حربة في مواجهة إسرائيل وبنجاح غير قابل للجدل، لكنّ الفشل كان علامة مميّزة في تعميم حالة المواجهة وجعلها أولوية لدى الشعوب العربية والإسلامية. ففلسطين اليتيمة تواجه بالسكين بينما تتطاير أحدث تكنولوجيا الصواريخ على المدن العربية وبأيد عربية وإسلامية. فماذا بقي من المشروع الافتراض؟ ينبغي الاعتراف أن هناك «إسلامات» متعددة والإسلام الوهابي هو أحدها، أمّا التنظير للتجربة الثورية الإيرانية ونجاحاتها كدليل على نجاح التجربة الإسلامية فهو مخالف لقوانين المنطق ما دام الإسلام الإيراني هو أحد وجوه «الإسلامات» ولا يمكن تعميم التجربة، فليست كلّ تجربة إسلامية جميلة وليس كلّ قائد إسلامي هو حسن نصرالله.
* كاتب لبناني