لم يكن صدفة اختيار «سري كانيه» التي عرّب اسمها إلى «رأس العين» كأول مدينة كردية تخترقها وتحتلها مجاميع تكفيرية مسلحة تابعة للجيش السوري الحر، قدمت عبر الحدود التركية، وعلى رأسها كتيبة غرباء الشام. والمسلحون الذين احتلوا المدينة لم يكونوا سوريين فقط، بل كانوا توانسة وليبيين ومغاربة ويمنيين من كتائب سلفية تكفيرية متفرعة من القاعدة كجبهة النصرة وغيرها من جماعات إرهابية باتت أمراً واقعاً في سوريا، الأمر الذي ينذر بحرف الثورة عن خطها وتحولها إلى حرب طائفية طاحنة سنية ــ علوية، كما هو حاصل، وبغية توسيعها إلى حرب عرقية كردية ــ عربية، كما هو مخطط له وفق سيناريو احتلال «سري كانيه». ومن هنا يكمن سبب اجتياح تلك المدينة الآمنة والصغيرة والمحررة من النظام، ما خلا بعض العساكر الذين لا حول لهم ولا قوة، والتي لا أهمية لها بتاتاً من الناحية العسكرية للمعارضة العربية السورية المسلحة. لكن اقتحامها أتى في سياق ضرب الاستقرار النسبي في كردستان سوريا، التي تميّزت منذ بدء الثورة بخطها الديموقراطي السلمي في الانتفاض والثورة على نظام القتل البعثي، وبأولويات وأجندات كردية وسورية ديموقراطية في الآن عينه، الأمر الذي لا يروق الكثير، من النظام أو بعض قوى المعارضة العروبية والإسلاموية أو بعض القوى الإقليمية، وعلى رأسها أنقرة. وإلا فكيف يمكن تفسير وصول شذاذ الآفاق هؤلاء الغرباء عن «سري كانيه» عبر الحدود التركية، وبكل بساطة مع دعم وإسناد لوجستي ومدفعي لهم من وراء تلك الحدود. اختيار المدينة لم يأت اعتباطاً، إذ تمثل مصغراً عن سوريا، حيث يوجد إلى جانب الأكراد العرب والسريان والأرمن والشيشان والمسيحيون واليزيديون والمسلمون، ما يجعلها منطقة حساسة وقابلة للتفجير. وهنا أتى اللعب على هذا الوتر بما يفجر المنطقة الكردية ككل. منطقة غدت حاضنة للنازحين واللاجئين الهاربين من الحرب من المناطق العربية السورية، وكأنّ المطلوب هو تحويل سوريا كلها إلى كتلة لهب.ورغم وجود قوات حماية الشعب الكردية (Ypg) في المدينة وحولها، إلا أنّها ــ إدراكاً منها لطبيعة المخطط وخطورته ــ مارست أقصى درجات ضبط النفس ولم تنجرّ إلى المواجهة، معطية الأولوية للجهود السلمية والمدنية لإقناع هذ المجاميع المسلحة بالخروج من «سري كانيه» التي غدت مدينة مهجورة بفعل اندلاع الاشتباكات بين الجيشين النظامي والحر. والأكراد أكدوا أنّهم ليسوا ضد الجيش الحر، لكنّهم لا يقبلون دخوله إلى مناطقهم التي يقومون بحمايتها وإدارتها، إن عبر وحدات حماية الشعب، بوصفها القوة العسكرية الدفاعية المنوط بها حماية أمن وسلامة كردستان سوريا وشعبها، أو عبر الهيئة الكردية العليا بوصفها المرجعية السياسية وسلطة القرار. وهذا ما تبدى في مواقف ومطالبات كلا المجلسين الوطني الكردي ومجلس شعب غرب كردستان، فضلاً عن الهيئة الكردية العليا الجامعة للمجلسين الواضحة والصارمة في دعوتها تلك المجموعات إلى الانسحاب وتجنيب المنطقة الكردية ويلات الدمار، كما هو حاصل في بقية سوريا. وترافق ذلك مع التلويح بخيار القوة إن أصرت تلك المجموعات على تحدي ارادة الشعب الكردي والبقاء في «سري كانيه». إذ إنّ الطرف الكردي قادر تماماً (وهذا ما ثبت على ارض الميدان) على حسم الامر عسكرياً عبر وحدات حماية الشعب، لكن لحساسية الوضع ولوجود مخطط رامي الى وضع الاكراد وبعض كتائب الجيش الحر في مواجهة بعضهم لبعض، قد يتطور الامر حتى الى صراع عربي ــ كردي في «سري كانيه» التي تتميز بوجود نسبة كبيرة من القاطنين العرب الأصلاء أو غمر المستوطنين عبر مشروع الحزام العربي السيئ الصيت. وتكفي الاشارة هنا الى مسارعة بعض رموز العشائر العربية من عملاء السلطة الى احتضات تلك المجموعات، وهي التي كانت قبل دخول الجيش الحر للمدينة تدين بالولاء المطلق للنظام. وعموماً، إنّ تطور الامور نحو صراع عربي ــ كردي كما تدفع به بعض قوى المعارضة العربية السورية المسلحة، بتشجيع من انقرة، يخدم بالدرجة الاولى النظام ويضر بالثورة السورية وبالتعايش بين مختلف المكونات، وخاصة أنّ الأكراد لطالما حافظوا على السلم الاهلي والتعايش بين مكونات غرب كردستان (كردستان سوريا) وهم محتاطون لمحاولات تأليب هذه المكونات بعضها على بعض، ما يفسر هذا الموقف المتروي في معالجة التطور الخطير المتمثل في محاولة احتلال «سري كانيه». والامر ينطوي على ابعاد خطرة لجهة محاولة تقطيع اوصال كردستان سوريا، وتهجير الاكراد عن مدنهم وارضهم، والتأسيس لسياسات تعريب جديدة تحت ستار «الثورة» هذه المرة. وهنا تنبع اهمية الدعوة التي اطلقتها الهيئة الكردية العليا للعودة الى الديار لمختلف سكانها أكراداً وغير أكراد الذين تركوا مدينتهم بفعل تغلغل تلك الجماعات فيها، الامر الذي سارعت تلك المجاميع الارهابية الى محاولة منعه لتكشف عن حقيقة نياتها الحاقدة في أنها ترتهن لأجندة عنصرية عروبية وتركية هدفها احتلال كردستان سوريا والتلاعب بواقعها الديموغرافي القومي، وجر المنطقة الكردية الى حلقة الدم هي التي نجحت في تطوير نموذج ثوري سلمي وسط غرق سوريا في شقها العربي في برك الدم والدمع.
ورغم أنّ الأكراد مصرون على المضي في ثورتهم السلمية وعدم تحولهم الى طرف في الصراع الطائفي المشتد في البلد، لكن مع شروع العصابات التكفيرية في الهجوم على المواطنين الأكراد ومحاولة استهداف الرموز والأعلام الكردية وحواجز الأمن (الأسايش) الكردية، كان لا بد لوحدات حماية الشعب من التصدي لها واعتماد خيار الدفاع عن النفس، وصولاً الى طرد هذه العصابات من المدينة. وتكبدت هذه العصابات خسائر فادحة في العتاد والأرواح على أيدي القوات الكردية التي أظهرت معركة «سري كانيه» مدى تطور قدراتها ومهاراتها القتالية التي ترفدها بالأساس الروح المعنوية العالية والالتفاف الشعبي الهائل حولها كقوات دفاعية تحمي شعبها وأرضها في وجه تلك العصابات، أو أي جهة أخرى معتدية.
ويمكننا الآن القول إنّ «سري كانيه» قبرت المخطط التركي الرامي إلى زجّ كردستان سوريا في لهيب ارهاب القاعدة ومن لفّ لفيفها من مجاميع الجيش الحر وتحويلها الى ساحة صراع دموي بغية ضرب المكتسبات المتحققة للأكراد في سوريا، لجهة ادارتهم لمناطقهم وشروعهم في تدشين البنية التحتية لاقليم كردي سوري يتحد مع المركز لاحقاً في سوريا الجديدة، في اطار فيدرالي تعددي. ذاك المخطط هو خدمة مجانية للنظام المحتضر، فصحيح أنّ اكراد سوريا لطالما التزموا الثورة السلمية المدنية على النظام، وعدم اللجوء الى خيار العنف، لكن الصحيح أيضاً أنّه في حال الاعتداء عليهم من أي طرف كان (النظام أو معارضته المسلحة) سيدافعون عن أرضهم صفاً واحداً. وهذا ما بدا جلياً إبان مقاومة مدينة «سري كانيه» التي غدت مدماك توحيد الصف الكردي السوري في مواجهة الخطر الأصولي التكفيري الداهم الذي لا يقلّ خطراً عن النظام الساقط والذي يمكن القول إنّ الأكراد قطعوا دابره في «سري كانيه»، وهو الذي كان يسعى إلى التمدد نحو باقي مدن كردستان سوريا ومناطقها. فقد خلفت واقعة احتلال المدينة من قبل العصابات المدفوعة من قبل تركيا الى بلورة موقف شعبي وسياسي كردي موحد في رفض هذا الاحتلال ومقاومته، ولا سيما أنّ الوعي الجمعي الكردي لا يستسيغ بتاتاً هذه الجماعات والتوجهات الظلامية الارهابية التي هي خليط قذر من شبيحة النظام حتى الأمس القريب جداً، الى الصداميين البعثيين والقاعديين، وقس على ذلك. فالمجتمع الكردي معروف بانفتاحه ووسطيته ونبذه للتعصب الديني وغير الديني.
لطالما كان كاتب هذه السطور يفخر بتحدره من «سري كانيه»، المدينة المقاومة التي تسطّر ملاحم الحرية ورفض العبودية والاحتلال والتي يرقد في ثراها الطاهر عادل اليزيدي. لكن افتخاري بمدينتي في هذه اللحظات التاريخية التي ننجز فيها حريتنا وننتزع حقوقنا في سوريا المستقبل الديموقراطية التعددية الفيدرالية كشعب كردي يعيش على أرضه التاريخية لا يضاهيه اي فخر آخر.
بعد تحرر «سري كانيه» على أيدي وحدات حماية الشعب ومعها الشعب الكردي برمته من هذه العصابات الظلامية، ها هي تصنع الآن التاريخ في كردستان سوريا.
* صحافي من كردستان العراق