في مثل هذه الأيام تقريباً من العام الماضي شرع غبطة البطريرك الراعي في جولاته، من صيدا وجزين فالبقاعين، ليبلغ عمق الجنوب في أيلول. وفي أواسط آب الجاري سيبدأ جولته في عمق الشمال في عكار. حملت جولات غبطته، لا سيما أيامها الثلاثة في الجنوب، الكثير من الدلالات والمعاني العميقة في شكلها ومضمونها. جاءت كأنها بحق بلورة لنهج جديد بدأت بكركي باعتماده في عهد بطريركها الجديد الذي أعلن فور انتخابه أنه سيكون بطريركاً لكل لبنان. ويأتي في طليعة عناوين هذا النهج الجديد تواصل الكنيسة مع الجنوب المقاوم للاحتلال، بعد شعوره بشيء من الإهمال في عهد نيافة الكاردينال صفير. حدد غبطة البطريرك الراعي في جولاته السابقة محورين أساسيين شدد عليهما.
الأول: محور الوحدة الوطنية أو ما يُسمى في المصطلح السياسي السائد العيش المشترك، إذ قال في اليوم الأول لجولته الجنوبية، لدى زيارته الرمزية لأضرحة شهداء العدوان الصهيوني على قانا ووضعه إكليلاً من الزهر: «لا معنى لوجودنا كمسيحيين من دون المسلمين، ولا معنى لوجود المسلمين من دون المسيحيين». وهذا ما أكده في اليوم الثاني لزيارته، في مرجعيون: «لبنان أمام تحدي لمّ الشمل وإعادة بناء نسيجه الاجتماعي لنعيش جمال الشركة والمحبة». وكذلك وصفه لمدينة بنت جبيل بأنها عاصمة العيش المشترك، إذ «إن اللبنانيين انتصروا على محاولة تفتيت بلدهم وعرفوا كيف يريقون الدم للحفاظ عليه».
الثاني: محور المقاومة. قارب غبطة البطريرك، منذ اليوم الأول لزيارته، موضوع المقاومة في الجنوب بكل افتخار واعتزاز، وخصّ زيارته للجنوب بهذا المحور تحديداً بقوله: «زيارتي للجنوب هي لتهنئة أبناء الجنوب بانتصارهم وصمودهم، وهم الذين قدموا كل شيء من أجل لبنان... تحية لكل أبناء الجنوب الذين قاوموا وصبروا لأجل لبنان لكي يبقى سيداً حراً مستقلاً». وفي يومه الجنوبي الثالث، توجه إلى رئيس الجمهورية في منزل رئيس المجلس النيابي، وأودعه رسالته إلى الجنوبيين قائلاً له: «إنكم، فخامة الرئيس، تولوني جميلاً من جهة، وتؤكدون الرسالة التي أحملها إلى أبناء الجنوب من جهة ثانية، وتثبتوهم بدوركم في أرضهم التي سقوها بعرق جبينهم، وحرروها بوحدة صمودهم، وافتدوها بدماء شهدائهم...».
هذا ما ركّز عليه غبطة البطريرك في جولاته الرعوية السابقة. بيد أنه فاته في كل تصريحاته والتحيات التي وجهها التوجه إلى فئة لبنانية واسعة كانت رائدة وطليعية فعلاً في محوري العيش المشترك ومقاومة العدوان الصهيوني. فهل ستأتي جولته العكارية بجديد يُنصف هذه الفئة الواسعة من اللبنانيين، ومنهم الكثير من العكاريين من مسلمين ومسيحيين، جُرح أو استشهد العشرات منهم دفاعاً عن الجنوب، وبعضهم لا يزال رفاته حتى يومناً يحضنه تراب الجنوب، كالشهيد أحمد حسين من قرية بيت أيوب العكارية؟ وهل ستُنصف زيارة غبطته العكارية العشرات من شهداء العيش المشترك العكاريين؟ وهنا نخص الشهداء المسيحيين العكاريين (وهم بالعشرات من أبطال العيش المشترك) الذين ذهبوا ضحية عرس الدم المسيحي ــ المسيحي الذي أدانه «الإرشاد الرسولي ــ رجاء جديد للبنان». ولا ننسى الكثير من الشهداء الذين ذهبوا ضحية عرس الدم على أيدي أحزاب العصبيات الطائفية المسيحية والإسلامية. وهل سيتخذ غبطته موقف التعتيم على فضل هؤلاء الريادي في العيش المشترك وفي المقاومة، على قاعدة مواقفهم وممارساتهم السياسية الرافضة للطائفية وأحزابها؟
طرحتم، غبطة البطريرك، «الدولة المدنية من دون لبس. والنسبية كخيار جديّ على مستوى القانون الانتخابي» كثوابت ضمن نهج إصلاحي. وليس أمامكم من راسخين في هذا الطرح أكثر من هذه الفئة اللبنانية المنضوية في مؤسسات وأحزاب لاطائفية، وبالتالي لها عليكم الحق في إعلاء شأنها، والاعتراف بريادتها. وهي الأقرب أيضاً إلى منطق رفضكم للسياسات الغربية (الأميركية والأوروبية)، ولا سيما ردّكم على كلام وزير الخارجية الفرنسي السابق ألان جوبيه: «نحن اللبنانيين ومسيحيي الشرق، نرفض كل ميل إلى تقسيم الشرق الأوسط دولاً مذهبية نتيجة للصراع المستتر والمعلن بين السنّة والشيعة، لأننا نؤمن بأن التعدّدية التي تندمج فيها الأقليات بتناغم وتوافق، هي ضامن حضورنا وكرامتنا وحريتنا».
غبطة البطريرك، ثمة في القبيات ــ عندقت (مركز الثقل المسيحي وفي غيرهما من بلدات عكار بالطبع) طليعيون استبقوا الإرشاد الرسولي واستبقوا نهجكم في الدعوة إلى العيش المشترك وإلى تحية المقاومة والمقاومين، ومارسوا جوهر «الإرشاد الرسولي» ورفض السياسات الغربية الاستعمارية، ودفعوا أثماناً غالية استشهاداً وسجناً. ومنهم من أنكر عليهم سلفكم الكاردينال صفير لبنانيتهم ومسيحيتهم بالذات، رداً على مواقفهم السياسية التي يستند إليها نهجكم ونهج «الإرشاد الرسولي». فهل سيجدون لدى غبطتكم الإنصاف والافتخار وما منحتموه بكل حق إلى مناضلي الجنوب؟
إن الأسير جورج عبدالله، ابن القبيات، يقبع منذ 28 عاماً في السجون الفرنسية دفاعاً عن القيم التي تنادون بها والتي نادى بها «الإرشاد الرسولي». ولقد سبق له أن قاوم الغزاة الصهاينة في الجنوب منذ 1978، وجُرح مرتين هناك. ولقد عجز ذووه عن شرف عرض قضيته عليكم رغم التقدم خطياً، بتاريخ 24/9/2011، من جانب حضرة رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جودة السامي الاحترام، بالتماس ليشمل غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي برعايته الأسير جورج عبدالله، والتقدم من غبطتكم لإحاطة الأسير جورج عبدالله بعطفكم وحكمتكم، وهو الذي إنما وقع في الأسر لأنه سبق له أن آمن بما تدعون إليه اليوم. ألستم مؤتمنون على ما تؤمنون به: «كنت سجيناً فزرتموني»؟ وألا تصححون ما فعله سلفكم: «كنت سجيناً فأنكرتموني»!
تمثلت طليعة العيش المشترك في القبيات ــ عندقت (وفي غيرها من البلدات والقرى المسيحية، والعكارية عموماً) في كوادر انضوت في أحزاب سياسية قومية واشتراكية قاسمها المشترك رفض الطائفية والدعوة إلى تغيير هذا النظام الطائفي القوي بالعصبيات الطائفية البغيضة، وهي الأكثر بعداً عن جوهر الدين وعن المسيحية بالذات. ولقد عانت هذه الطليعة من حصار الكنيسة المارونية لها فكرياً وسياسياً، ومن ملاحقة القوى الطائفية المسيحية لها تقتيلاً وتهجيراً حيث أمكنها ذلك. ومنها من قضى اغتيالاً في ما كان يُعرف باسم «المنطقة الشرقية» من بيروت، كرغدان سامي الخوري من بلدة عندقت على سبيل المثال. ومنها من تعرضت مصالحها للتدمير بإشراف كبرى الزعامات المارونية القبياتية التي تواطأت عليهم، كل زعامة من موقعها المناقض للأخرى، في ظل نظام الوصاية السوري. فمن يُنصف هذه الطليعة المسيحية التي سبقت إرهاصات «الإرشاد الرسولي»؟
لقد أعلنتم غبطة البطريرك، في جولاتكم السابقة، افتخاركم بالمقاومين في الجنوب وهم يدافعون عن بيوتهم وأعراضهم وأرزاقهم. فكم سيكون افتخاركم كبيراً بأبناء عكار الذين استشهدوا دفاعاً عن الجنوب وأهله؟ لقد وجهتم التحية للعيش المشترك الذي رعته المقاومة في الجنوب، أفلا يستحق رواد العيش المشترك العكاريون من مسلمين ومسيحيين تحية غبطتكم في زيارتكم لعكار؟
* أستاذ جامعي