تزاحمت البحوث والمقالات التي تناولت شخصية المفكر الإسلامي الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي، كأحد أبرز القامات المستنيرة داخل الحركة الإسلامية في القرن الماضي، لما يتمتع به من وعي وثقافة وفكر تجاوز الأبعاد المكانية والزمانية، واخترق الحدود المذهبية والطائفية، كما يُعتبر مجدداً للحركة الإسلامية الفلسطينية وباعثها في اتجاه العمل المقاوم. وفي الذكرى العشرين لاستشهاده دفاعاً عن قضيته وأمته، سنتطرق إلى الموقف الذي تبنّاه الشقاقي، من الأنظمة العربية والإسلامية، مع الإشارة إلى أننا سنكتفي ببعض النماذج التي تحدث فيها الشهيد، أو أبدى رأيه فيها.
لم يكن فتحي الشقاقي الشاهد على مجريات الواقع العربي، حيادياً أو متفرجاً، بل كان حاضراً في كل ميدان، مطلعاً في كل قضية، أكانت فكرية أم سياسية أم أدبية. كان سياسياً بارعاً وأديباً متذوقاً، ولا يترك حدثاً مفصلياً إلا وله رأي فيه، وكانت إضافاته وبخاصة في سنيّ عمره الأخيرة عميقة، ومتفردة أيضاً. ولم يعتبر يوماً أن ما يحدث في المنطقة شأن داخلي لا علاقة لنا به، خاصة إذا تعلق الأمر بالصراع مع إسرائيل. كذلك لم يكن انتهازياً يتصيد الأمواج ليركب في كل موسم سفينة في اتجاه مختلف، أو يمارس لعبة الجمع بين المتناقضات من أجل مكاسب شخصية أو حزبية، بل كان ثابتاً في موقعه وموقفه الذي أبصره منذ عرف فلسطين وعرف الطريق إليها. انطلق الشقاقي بفكرته من فلسطين، «مركز الصراع الكوني اليوم بين تمام الحق وتمام الباطل»، و»البوصلة التي تشير إلى سياق المعركة وأهدافها»، و»بؤرة تتوحد حولها جماهير الأمة، لذا كان من الواجب أن تشارك هذه الجماهير في المواجهة الشاملة، وإلا علينا أن ننتظر الشر الذي اقترب، ونجمة داوود ترفرف على عواصم العرب»!
كان يرى أنه يجب توظيف كل الجهود نحو مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين، وأن يترك العرب والمسلمون قضاياهم الثانوية والطائفية والمذهبية جانباً، مقابل استجماع القوى لدعم القضية الفلسطينية، والوقوف بجانبها. ورأى أنه «دون حسم الصراع على فلسطين، فكل محاولات الأمة للنهضة والاستقلال ستُجهض أو تحاصر، أو تدفع الأمة تكاليفها مضاعفة من التضحيات والزمن على السواء». بعض الأنظمة العربية تبيّن خذلانها للقضية الفلسطينية، بل تخلت عنها وحاصرتها وأوقفت كل أنواع الدعم الحقيقي عن حركات المقاومة في فلسطين. آنذاك، رأى الشقاقي، أن الأنظمة العربية، جزء أساسي من المشروع الاستعماري الغربي ولا تحمل تناقضاً رئيساً معه، إنما يبقى تناقضها معه ثانوياً، كما لا يمكن أن تخوض ضده نضالاً حقيقياً، إضافة إلى أنها أداة للسيطرة على شعوب المنطقة، والوجه الآخر للمشروع الصهيوني، وأن رموز هذا النظام هم امتداد لأبي جهل وأبي لهب!

انطلق بفكرته من فلسطين
«مركز الصراع الكوني بين تمام
الحق وتمام الباطل»


وينبغي أن نذكر، أن المرحلة التي عاشها الشقاقي، كانت دقيقة وخطيرة في آن. فقد ارتفعت أصوات تنادي برفع الراية البيضاء، والتوقف عن مقاومة الاستكبار، بزعم أنه لا قبل لنا بها، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تمعن في جرائمها البشعة ضد الفلسطينيين. لقد وضع الشقاقي ميزاناً للموقف، وهو «فلسطين والإسلام»، نقترب من الآخرين بمدى اقترابهم منه، ونبتعد عنهم بمدى ابتعادهم عنه، ولهذا كان موقفه داعماً وإيجابياً لأنظمة عربية وإسلامية وقفت إلى جانب القضية الفلسطينية وانتصرت لمقاومة الشعب الفلسطيني، بينما كان ناقداً وناقماً على الأنظمة التي تمثلت في محور التبعية للغرب. مثلاً، كان موقف الشقاقي من إيران، أنها تمثل داعماً لقضية فلسطين وحليفاً للقضايا العربية، وتصطف مع الجماهير في مواجهة الاستكبار، معتبراً أن العرب يرتكبون خطأً إذا صنعوا من إيران عدواً. وقال في كلمة في المؤتمر القومي العربي الخامس في بيروت عام 1994، «إن إيران حليف للقضايا العربية منذ انتصار الثورة الإسلامية، وسيكون خطأً كبيراً أن يسعى العرب ليصنعوا منها عدواً، وهي التي تلتقي معنا في همومنا الاستراتيجية من معاداة الهيمنة الغربية وأمن المنطقة والبترول، والأهم أنها تلتقي معنا في فلسطين». واعتبر «أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران هو الذي أطلق الصحوة الإسلامية في المنطقة، وهو الذي أعطى دفعة قوية لصعود الإسلام في فلسطين خاصة، فالمسلمون المستضعفون وجدوا في انتصار الثورة الإسلامية ملاذاً وملجأً وأملاً، حررهم من الإحباط واليأس، فكما سقط عرش الطاغوت الشاهنشاهي يمكن أن تزول الغدة السرطانية إسرائيل». أما سوريا، التي تُستهدف وحدتها وقوتها كحاضن للمقاومة وداعم لها سياسياً ومعنوياً ومادياً أيضاً، وإضعاف موقفها من الصراع مع إسرائيل، فجاء تصريح الشقاقي لصحيفة «شيحان» الأردنية بتاريخ 23/10/1993، قائلاً إن «سوريا من الأقطار العربية المفتوحة لجميع العرب، وهي في حالة حرب وصراع مع إسرائيل حتى الآن، ولذا فهي لا تمانع وجود فصائل فلسطينية مقاتلة على أراضيها، وأغلب الفصائل الفلسطينية المعروفة لها وجود سياسي ومسلح في سوريا كجزء من توجه سوريا السياسي».
على الطرف الآخر، وصف الشقاقي الأنظمة التي خذلت فلسطين بـ»أصدقاء أميركا»، خلال خطاب في المؤتمر الشعبي في الخرطوم عام 1991. ورأى أن من أهداف الهيمنة السياسية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة، هو «تعزيز مكانة الدولة اليهودية سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، وتحسين علاقاتها بأصدقائها في المنطقة العربية». ووجه موقفاً معارضاً لاتفاقية «كامب ديفيد»، وتساءل في مجلة الطليعة الإسلامية العدد 27/28 عام 1985، «هل كان على زعيم أكبر دولة عربية أن يذهب إلى القدس بل إلى آخر العالم في كامب ديفيد لتدشين سلام مدنس؟ هل كان على قاهرة العروبة والإسلام، قاهرة المعز أن تحتضن العلم الإسرائيلي، فيما الاستشهاديون في جبشيت والنبطية يحيلون قراهم الفقيرة إلى جحيم حقيقي يحرق وجوه المحتلين، فيهرولون على غير هدى؟». وفي ظل الهبة الشعبية التي تشهدها القدس المحتلة الآن، نستذكر موقف الشقاقي من الأنظمة العربية التي حملها مسؤولية ضياع القدس، واعتبر أن هذه الأنظمة «التي ترفع صوتها عالياً بالحرص على القدس وأنها من الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها»، تقوم بدورها الخطير والمشبوه، وأنها المسؤولة عن ضياع القدس سابقاً ولاحقاً، قبل التوقيع وبعد التوقيع... و»ليس هذا الحرص المفتعل في وسائل الإعلام إلا كما المريب يقول خذوني، ليس إلا نفاقاً مفضوحاً».
إذن، كان الشقاقي حاضراً في مواقفه وآرائه حول الأحداث الدائرة في المنطقة. فكما كان له موقف واضح وصريح من دعم الانتفاضة الفلسطينية والعمل على استمرارها، كان يقف إلى جانب حزب الله في مقارعة الاحتلال ويعتز بمقاومته.
أما عن الأحداث الداخلية بين الدول، فقد وقف موقفاً قوياً من الحرب العراقية ــ الإيرانية، معتبراً أن «قادسية صدام» كانت بدعم غربي لإسقاط الثورة الإسلامية في إيران. وعن موقفه من الاجتياح العراقي للكويت، قال الشقاقي: «إن ما يفعله صدام بحق الكويت بلطجة وطغيان». بالذهاب إلى اليمن، التي نلمس في شعبها صدق الانتماء إلى فلسطين، والتحرك الجماهيري المهيب لنصرة القدس، والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم، قال الشقاقي لصحيفة «الأمة» اليمنية عام 1992: «الشعب اليمني من الشعوب العربية والإسلامية المتميزة بصدق توجهه إلى القضية الفلسطينية رغم الظروف الصعبة التي يعيشها، فاليمن على بساطته حاضنة جيدة للشعب الفلسطيني ولقضايا الشعب الفلسطيني. نرى تسهيل الحكومة اليمنية في أكثر من مستوى لحركة المناضلين الفلسطينيين».
وفي السودان، الذي تعرض لمؤامرة كبرى، عبر انفصال الجنوب، ثم جره إلى الحظيرة الأميركية، كان الشقاقي يطالب بالحذر من المؤامرات والحفاظ على الوحدة. قال مرة في لقاء صحافي مع صحيفة «السودان الحديث» عام 1993، إنه يجب «أن يحافظ السودان على نفسه من المؤامرات الدولية والإقليمية، وأن ينهض اقتصادياً، وأن يضرب المتمردين في الجنوب ويحافظ على وحدته». وكما بدأنا من فلسطين، نختم في فلسطين. صرّح الشقاقي بموقفه الثابت من قيام السلطة الفلسطينية، وعبر عن رفضه لها جملةً وتفصيلًا، وكان لا يعترف إلا بجهاد الشعب الفلسطيني المستمر حتى دحر الاحتلال. لقد كان الرجل يرى أن المعركة مستمرة، «حتى تضع أوزارها في بيت المقدس، وأنها لن تنتهي كما يشتهي سفراء السلام». وأضاف: «التطاحن من حول فلسطين سيبقى مستمراً، ومستقبلها سيبقى معلقاً بسيوفنا». وللتاريخ، فإن غالبية الأنظمة العربية رفضت استقبال جثمان الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، ومنها من رفض حتى مرور الجثمان عبر أراضيها حينما استشهد في مالطا. لكن، بعد عناء شديد وافقت تونس على مرور الجثمان، ونقله إلى سوريا التي استضافته مجاهداً وشهيداً.
* باحث وكاتب فلسطيني