تشهد المنطقة العربية حالياً ظاهرة صعود الحركات الإسلامية في ميدان الصراع السياسي الدائر. بيد أنّ التشكل السياسي للتيارات الدينية العقائدية ليس بالأمر الجديد. وهي تختلف بطبيعة الحال في ما بينها لجهة النظرة إلى الشأن العام، بل وكيفية فهمها للحكم الإسلامي والشريعة الإسلامية. فهي تتباين من حيث تفسير أحكام الشريعة والبناء عليه في صوغ نموذج خاص بكل منها لمقاربة الحياة العامة وغيرها من أمور الدنيا. ولبنان ليس بعيداً في الواقع عن هذا النقاش وظاهرة الطفرة في انتشار الإسلام السياسي. فما هي الرؤية السياسية للإسلام في المعالجة والمشاركة وحتى إعادة البناء فيه؟ وكيف يمكن الخروج من مأزق الإخفاق في بناء الدولة الوطنية، بمقترب الحداثة في التنمية، عبر الركون إلى الفكر الإسلامي والعودة إلى الجذور في مقاربة واستشراف المستقبل السياسي للبنان، ومن خلاله للمنطقة؟لقد فشلت الطبقة السياسية في تطبيق النموذج الغربي لنظرية الحداثة في لبنان منذ الاستقلال. فهي لم تتمكن من بناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة على قاعدة المساواة السياسية في المواطنة من أجل الحرية التي تقترن بالعدالة الاجتماعية. والحق يقال بأنّ الطبقة التي تقبض على سلطة الحكم في لبنان، وهي نفسها لم تتغير ولم تتطوّر، ربما كانت قد أغفلت سبل تنفيذ مشروع بناء الدولة. لكنّها بالتأكيد لم تكن تريد البدء والمضي قدماً بسياسة النهوض بالبلاد على كافة الصعد بشكل جدي. وهي لم تبادر يوماً إلى إعداد ووضع البرامج التنموية موضع التنفيذ الفعلي، رغم أنّه لا يمكن إنكار حدوث تقدم ما بصورة متقطعة ومتفرقة من وقت لآخر هنا أو هناك، إلا أنّه لا يندرج أبداً في إطار رؤية متكاملة للمعالجة الجذرية. فالسلطة الحاكمة في لبنان تسودها عقلية رجعية بفعل تكوينها الطائفي أو المذهبي ودخول عامل المال السياسي على خط الصراع التقليدي على السلطة، فضلاً عن جمود البنى الإقطاعية وثباتها أمام كل محاولة للتغيير. في هذا السياق، لا بد من القول إنّ الأطر التنظيمية للحراك السياسي على الساحة اللبنانية، كالأحزاب والتيارات الفكرية، لا تشكل نموذجاً للحركات التقدمية والنهضوية كتلك التي رفعت لواء الثورة على الكنيسة والإقطاع وغيرهما من القوى الرجعية في أوروبا، وخاضت معركة التغيير فيها على خطى ميزان الحداثة، ولا تعبّر بصدق عن الأفكار التي تنادي بها والطروحات التي تدعي العمل على إنجازها.
مع ذلك، إنّ الحديث عن الفشل بتجسيد التجربة اللبنانية في الأخذ بمفهوم الحداثة وتعثّر مشروع بناء الدولة لا يعني على الإطلاق أنّ النسق العام المنبثق من الحداثة في الغرب إبان عصر الأنوار، غير صالح للتطبيق على أرض الواقع أو أنّه غير ملائم للصيغة اللبنانية. لكنّه يفتح الباب واسعاً للخوض بإسهاب في النماذج البديلة والنظريات الرديفة التي قد تبدو أقرب إلى الواقع اللبناني وأكثر مراعاة لخصوصية التركيبة الاجتماعية التي يتكون منها. هكذا تصبح هذه اللحظة السياسية والتاريخية مناسبة لدعوة حزب الله ذي الخلفية الأيديولوجية الإسلامية، وربما سواه من التيارات الإسلامية، إلى بلورة رؤيته الخاصة للتطوير السياسي والفكري على المستوى الحزبي أولاً، والمستوى الوطني ثانياً. عند هذا المقام، قد يكون حزب الله معنياً أكثر من سواه بهذه المهمة التاريخية النبيلة، بالنظر إلى حضوره الفاعل على خريطة الوطن الصغير، وقدرته الوازنة على التعبئة السياسية والشعبية، ودوره المركزي في المقاومة والتحرير، الذي يمكن الرهان عليه، فيما لو أراد أحد التثبت من نياته الحسنة ومن الخلفية الوطنية التي تحدث عنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. يأتي ذلك في سياق الصعود السياسي التدريجي للحركات الإسلامية في الشرق الأوسط طوال العقود الماضية على خلفية تراجع الطروحات القومية والاشتراكية والتقدمية واندثارها في مختلف الأقطار العربية والإسلامية. لذا، إن الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية في الدول العربية معنية قبل أي شيء آخر بصوغ وتظهير رؤيتها البراغماتية العامة، النابعة من طريقة فهمها الشريعة الإسلامية، لديناميكية التسيير والتدبير في بلدانها بعيداً عن المظاهر أو الأشكال الديماغوجية غير المسؤولة.
تكمن البداية في ضرورة أن تدرك الحركات الإسلامية أهمية البدء من حيث انتهى الآخرون. يعني ذلك أن تتعامل مع الواقع كما هو قائم على الأرض، وأن تعمل على إحداث التغيير الذي تتوخاه من داخل النظام، لا أن تفرض منطقها السياسي بالقوة. وهي لهذا الأمر محكومة على ما يبدو بالسقف الذي وضعه أسلافها في الحكم للتحرك السياسي. في ما يخص حزب الله في لبنان، تجدر الإشارة إلى أن النظام السياسي والدستوري في هذا البلد هو في الأساس نموذج مماثل للأنظمة الغربية من حيث إنه مستوحى بجذوره التاريخية من التجارب الأوروبية، ولا سيما تجربة الجمهورية الفرنسية الثالثة ومن ثم الرابعة. هذا المعطى يفرض على حزب الله، وهو يعي ذلك، التزام العمل السياسي وفقاً للآليات المؤسسية والدستورية التي أدخلتها سلطة الانتداب الفرنسية إلى الحياة السياسية اللبنانية في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ الكيان والدولة، ومن بعدها السلطة اللبنانية منذ عهد الاستقلال. لقد استقرت صيغة الحكم والإدارة على تقليد النموذج الغربي في الحداثة، من حيث إن النظام اللبناني يقوم على الديموقراطية والتعددية الحزبية والتمثيل البرلماني والمواطنة غير المنجزة! أمام هذا المشهد، ربما كان يجدر بقيادة الحزب والمقاومة أن تسعى جاهدة إلى دخول العقل السياسي الغربي الذي بنى هذا النظام، وأن تعرف بالتالي كيف يمكن أن تبادر إلى تطويره، بمعنى إعادة بناء السلطة فيه بنحو هادئ لا يثير أي استفزاز، وفقاً لمنطق التفكير والإدراك الليبرالي الغربي نفسه.
من هذا المنظار، يمكن حزب الله أن يعمل على ابتداع رؤية متقدمة للتحديث السياسي في مفهوم العمل الوطني والضوابط التي من شأنها تقنين الممارسة السياسية أو تأطيرها بما ينسجم مع فكرة الحاكمية أو الحكومة في الفكر الإسلامي المعاصر، وبالشكل الذي يمكن أن يتقبله الناس على اختلاف المذاهب والطوائف. هنا يبرز دور النخبة المثقفة داخل الحزب في البحث عن الصيغة التطبيقية لنظرية الحداثة ذات الأصول الغربية، بما يتلاءم بالتحديد مع فلسفة العقيدة الإسلامية التي يعتنقها الحزب بقصد التجديد السياسي والسوسيولوجي. إلا أن حصيلة هذا الجهد الفكري تظل بطبيعة الحال قابلة للمراجعة والتدقيق، أو أقله النقاش الهادئ والمسؤول، على طاولة الحوار مع سائر الأطراف اللبنانيين.
قبل الخوض في مضمون الطرح السياسي والحضاري الذي يمكن حزب الله أن يرفع رايته، ليس فقط في نطاق لبنان ولكن أيضاً على صعيد العالمين العربي والإسلامي، لا بد من الوقوف ملياً عند أهمية التجربة الإيرانية المعاصرة التي تمثل فعلاً نموذجاً سياسياً فريداً ومتميزاً. فقد أعقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران إطلاق مشروع كبير لإعادة بناء الدولة فيها على ركائز حديثة ومتينة. وكان من الطبيعي ألا تلجأ أبداً القيادة السياسية الجديدة لإيران إلى اقتباس أحد النماذج المدنية الشائعة في الغرب أو إسقاطه على المسرح الإيراني أو حتى تكرار إحدى تجاربه التي انبثقت من ظروف موضوعية مختلفة. بل قامت خلافاً لذلك بصياغة تجربتها الخاصة، وحاولت أن تبرز من خلالها مفهوم الفقه الشيعي للمرجعية السياسية والشرعية. وقد تضمنت هذه التجربة غير المسبوقة في التاريخ الحديث والمعاصر، الإرهاصات المبدئية لنظرية الحكم الرشيد من وجهة نظر الفقه والاجتهاد في المذهب الجعفري. هكذا أماطت الثورة الإسلامية الإيرانية اللثام عن نظرية الولي الفقيه وغيرها من الطروحات التي ابتدعها العقل الديني المجتهد في إيران من رحم مفهوم الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية، على غرار الخلافة الإسلامية أو الرئاسة المدنية أو الملكية الدستورية أو الحكومة الديموقراطية المنتخبة أو الحكومة الجمهورية... بهذا المعنى، تجربة إيران في عصر الثورة، في التعبير عن الإسلام السياسي المعاصر بطريقة عقلانية، جديرة بأن تكون مدار بحث وموضع تمحيص من زاوية التصنيف النظري والمبدئي لنماذج الأنظمة السياسية والاجتماعية في العالم. فقد تمكنت من تجسيد نظرية الحكومة الإسلامية، كما يتطلع إليها أتباع أهل البيت (ع)، في منظومة مؤسساتية وفكرية متعددة الأجهزة والمستويات في الاختصاص والصلاحية.
بالعودة إلى الحيز اللبناني، ثمة من سيسارع إلى القول إن ما تحقق في إيران على أيدي النخب السياسية الإسلامية التي حكمت ولا تزال منذ الثورة فيها، هو غير قابل للتطبيق ضمن الصيغة اللبنانية الحالية، وهو محق. وقد يعتقد البعض أو يقول إن في هذا الكلام دعوة ضمنية لإقامة حكم إسلامي ما، وإنها رغبة غير معلنة لدى البعض تساوره منذ زمن، وهو مخطئ. فالحزب، بما لديه من خبرة، يعي تماماً أنّ من غير الممكن أو المقبول حصول هذا الأمر في لبنان. هنا تجدر الإشارة إلى أن العديد من الحركات الإسلامية في الأوساط السنية اللبنانية قد تكون لديها أيضاً النية في إحداث تغيير معين في صلب المعادلة الداخلية وإعادة خلط الأوراق تبعاً لخلفيتها العقائدية، إلا أن حجمها المحدود وحضورها المستجد على الساحة قد يحولان دون ذلك حتى الآن. ولكنه أمر مشروع في كل الأحوال، فالباب مفتوح أمام الجميع للتعبير السلمي عن الرأي والجهر بما يريده لجهة كيفية نظرته إلى لبنان، بل ووضعه على طاولة البحث، ما دام لا يمس بالسلم الأهلي والعيش المشترك وليس من شأنه تهديد الاستقرار والأمن في البلد.
إذاً المطلوب من حزب الله، وهو لديه القدرة على ذلك، أن يطلق ورشة عمل داخلية تفضي إلى إعلان وضع أو إعداد أطروحة سياسية مستوحاة من الفكر الإسلامي، وتكون مقبولة بين كافة شرائح المجتمع على أرض الواقع. ليس المقصود أن يعمل حزب الله على نقل التجربة الإيرانية إلى لبنان على الإطلاق، ولا هو بوارد هذا الأمر. ولا المقصود أن يعمل بطريقة أو بأخرى على اقتراح أو طرح فكرة فرض الحكم بالإسلام والتسويق لها أبداً. لكن المطلوب في هذه اللحظة من تاريخ لبنان أو في أية لحظة في المستقبل أن ينهض حزب الله بمسؤولية وطنية وسياسية ودينية في تطوير مقولة الحداثة التي أُسقطت على الساحة اللبنانية من دون أي محاولة لتكييف المفهوم مع الواقع. يمكن حزب الله حينذاك أن يضع بصماته على الصيغة المطبقة أو المقترحة للخلاص في لبنان، وأن تكون له إسهاماته في عملية إعادة النظر بكل شيء أو مجرد المطالبة بها. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن السعي إلى إعادة قراءة وتركيز دعائم الصيغة التوافقية أو تغييرها كما الإسهام في هذا الجهد العملاق هما مسؤولية جميع القوى والأحزاب في لبنان، حتى لا يظنن أحد أنّ الغاية التي تكمن خلف هذا الكلام إنما هي إطاحة التوازن الوطني وبالتالي تطبيق مقولة حزب السلاح والدويلة ضمن الدولة أو بدلاً منها. إذاً، يستطيع حزب الله أداء هذا العمل كخيار استراتيجي في مواجهة حملة التخوين والتشكيك والتحريض على الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب به. فالحزب قادر على الانخراط في تفعيل العمل الوطني وتطوير الممارسة السياسية والدعوة إلى ذلك، نظراً إلى سلوكه ودوره وقضيته الأولى.
المهم من كل ذلك أن تتوصل قيادة الحزب والنخب الفكرية فيه في نهاية المطاف إلى دراسة سبل الإفادة من أحكام الشريعة الإسلامية. فبدل أن يرفع شعار الجمهورية الإسلامية كما يتهمه البعض، بإمكان الحزب أن يبتكر نظرية متماسكة في التطوير السياسي لعجلة الحكم في لبنان على قاعدة إبراز الفكرة الجوهرية من كل هذا الطرح في الاعتدال والعقلانية لدى الإسلام وفي كنفه. لقد قامت كل النظريات البراغماتية في العالم الغربي المعاصر على إعلاء شأن مسألة التفكير العقلاني المعتدل في بناء الدولة الحديثة الوطنية أو القومية. فما من نهضة ممكنة أو محتملة للشعوب المسلمة إلا بسلوك الخيار نفسه في التخطيط الاستراتيجي مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والديموغرافية. في لبنان، من الثابت أن الحزب ملتزم مبدأ التعايش مع كافة المذاهب والطوائف. يبقى أن يبادر الحزب إلى تعزيز مشاركته في البناء الوطني الجامع بأن ينهل من الفلسفة الإسلامية لدى علماء الطائفة الشيعية في جبل عامل وبعلبك وقم والنجف، وهو يضاعف بهذه الطريقة مقدار الحضور والانخراط السياسي داخل مؤسسات الدولة للطائفة التي ينتمي إليها والتي تحاول النهوض من كبوتها والخروج تدريجاً من دائرة التهميش والإهمال إلى موقع المبادرة والمشاركة في القرار.
إن العمل في سبيل توفير الحرية وتحقيق العدالة هو الهدف الذي يطفو على كل الطروحات والبرامج، أكانت قومية أم اشتراكية أم ليبرالية. لذا، من حق حزب الله وغيره من التيارات الإسلامية والدينية عموماً، أن تطلق مشروعها الوطني الذي يعبر عن رؤيتها الخاصة في كثير من الأمور العامة. وتأتي بعد ذلك خطوة الانتقال بهذه النظرية التي يقول بها إلى ميدان التطبيق عبر تجسيدها في برنامج عمل ينقل المفاهيم المجردة في الحكم والمسؤولية إلى مستوى الآليات التي توضع موضع التنفيذ وتعبّر عن القيم السياسية للحزب. والساحة اللبنانية مفتوحة دائماً أمام حرية التعبير عن الرأي وإمكانية تقبل مختلف التيارات الفكرية أو الأيديولوجية، أقله من الناحية النظرية. فقد تكون الحداثة على الطريقة الإسلامية هي الحل عندئذ!
* باحث سياسي